الجمعة، 19 أبريل 2013

شروق على المرج الأفريقي

شروق على المرج الأفريقي
دوريس ليسنج
Doris Lessing - A Sunrise on the Veld
ترجمتها للعربية: روح حائرة
تدقيق لغوي: سلامة المصري


"الرابعة والنصف! الرابعة والنصف!"
في كل ليلة من ليالي ذلك الشتاء كان يدفن وجهه في الوسادة و يرددها بصوت مرتفع حتى يعيها عقله جيدا و يحفظها، بعدها ينام على الفور كأنه مصراع نافذة أُغلق، و وجهه قبالة الساعة لتكون أول ما تقع عليه عيناه عند استيقاظه.
و في كل صباح حين تأتي الرابعة والنصف تماما يضغط منتصرا على زر منبه الساعة الذي سبقه الجانب المظلم من عقله حيث ظل متيقظا طوال الليل يعد الساعات بينما هو مستغرق في النوم. تكوم تحت الأغطية للحظة أخيرة دافئة و هو يداعب فكرة مكوثه في السرير لهذه المرة فقط، لكنه كان يلهو بهذه الفكرة لمتعة معرفته أن هذا ضعف يسهل مقاومته دون جهد؛ تماما مثلما يضبط المنبه كل ليلة لينال لذة اللحظة التي يستيقظ فيها متمطيا و شاعرًا بتقلص العضلات في أطرافه..يفكر: حتى عقلي ـــ حتى هذا! أستطيع التحكم في كل جزء من جسدي.
ياله من ترف جسد دافئ مرتاح، و يدين وساقين وأصابع تنتظر الأوامر كالجنود ! ويالها من نشوة معرفة أن تلك الساعات الثمينة منحت للنوم بإرادته !
ــففي إحدى المرات ظل مستيقظا لمدة ثلاث ليال متواصلة فقط ليثبت أنه قادر على ذلك وبالإضافة لهذا عمل طول النهار رافضا مجرد الاعتراف أنه مرهق؛ فالنوم بالنسبة له خادم يؤمر ويُنهَى.
مدّد الفتى كاملَ جسده حتى لمس الحائط بيديه ونهاية السرير بأصابع قدميه، ثم نهض فجأة كسمكة تقفز خارج الماء فتجد البرد الشديد في انتظارها.
كان قد اعتاد تغيير ملابسه سريعا في محاولة منه للاحتفاظ بدفء الليل حتى موعد شروق الشمس بعدها بساعتين، ولكن فور انتهائه من ارتداء ملابسه يكون الخدر قد أصاب يديه مما يجعل من حمل حذائه أمرا صعبا، ذلك الحذاء الذي لايستطيع أن ينتعله مخافة أن يستيقظ أبواه اللذان لم ينم لعلمهما مطلقًا كم يستيقظ مبكرا.
بمجرد أن تخطى عتبة الباب تقلص باطن قدمه و بدأت ساقه تتوجع من شدة البرودة، كانت السماء تتلألأ والأشجار الساكنة بدت سوداء في ذلك الوقت من الليل، أخذ يبحث عن علامات النهار؛ عن اللون الرمادي في حواف الصخور، أو ضوء في السماء يأتي من حيث تشرق الشمس، ولكن لم يكن هناك شيء بعد. مثل حيوان متحفز تسلل أمام النافذة و وقف باتزان ويده على حافتها للحظة بالغة الخطورة في تحدٍ وإمعان للنظر، وتوثب محدقًا في السواد الدامس للغرفة حيث يرقد والداه .
أخذ يتحسس مكانه وطريقه فوق الممر العشبي بأصابع قدميه ،عبرَ نافذة أخرى أبعد بمحاذاة الحائط حيث يوجد سلاحه الذي أعده في الليلة السابقة ليكون جاهزا، كان معدن البندقية شديد البرودة فانزلقت أصابعه الخدرة من عليها، علق البندقية في الخطاف المربوط بذراعه حتى لا ينزلق منه ثم مشى على رؤوس أصابعه نحو الغرفة التي تنام فيها الكلاب، كان يخشى أن يكونوا قد خرجوا قبله ولكنهم كانوا هناك بانتظاره جالسين على أعجازهم في مقاومة للبرد، لكن آذانهم وأذيالهم اهتزت في بهجة لرؤيتهم السلاح. صوته التحذيري الخفيض أبقاهم صامتين تماما حتى أصبح المنزل على بعد مائة ياردة من خلفهم و من بعدها انطلقوا ينبحون باهتياج نحو الشجيرات.
تخيل الفتى و هو يبتسم بسخرية أبواه يتقلبان في السرير متبرمين: يا لـتلك الكلاب مجدّدًا!قبل أن يعودوا إلى النوم.
ظل يرمق المنزل من فوق كتفه كلما عبر جدارا من الأشجار يحجبه عن الأنظار؛ كان المنزل يبدو منخفضا وصغيرا جدا يقبع هناك تحت سماء شاهقة براقة، بعدها أدار له ظهره وابتعد.
حري به أن يسرع، عليه أن يكون على بعد أميال قبل أن تشتد قوة الضوء ، وبالفعل كان اللون الأخضر قد بدأ يغزو باطن أوراق الشجر، ونسيم الصباح يملأ الأرجاء و النجوم تخبو.
وضع حذاء فيلد* المصنوع من جلد غير مدبوغ على كتفه، كان قد تغضن و قسي من ندى مائة صباح، سيكون في أمس الحاجة إليه حين تصبح الأرض أسخن مما يُحتمل، أما الآن فهو يشعر بالتربة الباردة تتخلل بين أصابع قدميه، أخذ يحرك عضلات قدمه لتأخذ شكل الأرض؛ وفكر: أستطيع أن أسير طوال اليوم دون أن أشعر أبدا بالتعب!
كان يسير سريعا عبر ممر مظلم تكسوه أوراق الشجر والنباتات، و الذي يتحول في وقت النهار إلى طريق، و كانت الكلاب تتجول في خفاء عبر طرق السفر المنخفضة في المرج، كان يسمعهم يلهثون و أحيانا كان يشعر بخطمهم البارد على ساقه قبل أن يبتعدوا مجددا بحثا عن أثر طريدة للحاق بها. لم تكن كلابا مدربة بل بالأصح رفقاء صيد يركضون وفقا لهواهم، وغالبا ما ينال منهم الإرهاق في المطاردات الطويلة قبل الإصابة الأخيرة للهدف ويذهبون بحثا عن متعتهم الخاصة.
سرعان ما استطاع رؤيتهم؛ بدوا صغار الحجم وشرسين تحت ضوء غريب وجامح، إذ يتهيأ المرج - في اضطراب - للتلوّن، منتظرًا الشمس لتخضب الأرض والعشب كرّة أخرى.
كان العشب يصل لمحاذاة كتفه والأشجار تمطره بندى فضي خافت، تبلل فاعترت جسده كله رجفة متواصلة.
بمجرد أن انعطف نحو الطريق المعلَّم حديثا بآثار الحيوانات، اعتدل متحسرا و مذكرا نفسه أن متعة المطاردة يجب أن تنتظر ليوم آخر.
ثم راح يركض بمحاذاة حافة الحقل، ملاحظا أثناء تمايله كيف يغشاه نسيج عنكبوت حديث، مما يجعل ذلك الامتداد الطويل من كتل الطمي الأسود يبدو كشبكة فضية متلألئة.
كان يركض على وتيرة ثابتة تعلمها من مراقبته للسكان الأصليين، ينقل فيها وزن جسمه من قدم لأخرى في حركة بطيئة متزنة لا تُرهق أبدا ولا تقطع النفس؛ شعر بالدماء تتدفق عبر قدميه و ذراعيه، و بداخله أخذ عنفوان جسده يتعالى إلى الحد الذي جعله يصرعلى أسنانه بقوه ليكبت رغبة محمومة في الصراخ بنشوة النصر.

ما لبث أن غادر الجزء المحروث من المرج، بدت الشجيرات منخفضة و سوداء من خلفه، وتراءى له أمامه بحيرة ضحلة و أفدنة مفتوحة من العشب الطويل الباهت ترسل بصيصا غائرا من الضوء إلى السماء الملساء، وعلى مقربة منه انحنت حزم العشب المجزوز المثقلة بالماءو تلألأت القطرات الماسية على كل سعفة منها.

استيقظ الطائر الأول وعلى الفور انطلق سرب من الطيور في الهواء مغرَدًا بصخب مؤذنا بقدوم النهار؛ و فجأة استيقظ المرج من خلفه على أغنية؛ استطاع أن يسمع غرغرة الدجاج الحبشي على بعد، هذا يعني أنهم يطيرون الآن من أشجارهم إلى الأعشاب الكثيفة، كان من أجلهم أتى لكنه تأخر كثيرًا، لم يبال إذ نسي أنه قد أتى للصيد. باعد بين ساقيه و تأرجح من قدم لأخرى، و أدار بندقيته إلى أعلى وأسفل في نوع من التمرين المرتجل، ثم أرسل رأسه إلى الخلف حتى توسدت عضلات رقبته و أخذ يراقب السحب الوردية الصغيرة تسبح في بحيرة من الذهب.
فجأة اعتمل كل هذا في داخله: كان شيئا لا يحتمل، وثب عاليا في الهواء وهو يصيح و يهتف في جلبة وحشية مبهمة، ثم أخذ يركض ولكن ليس بحذر هذه المرة إنما بطيش كشيء جامح، كان مجنونا خالصا يصرخ في ولَه لغبطة العيش وفيض الشباب، أسرع الفتى أسفل البحيرة الضحلة في مهرجان من الألوان القرمزية والذهبية بينما أخذت كل عصافير العالم تغني من حوله، ركض بخطوات واسعة واثبة و صاح بينما يركض، شاعرًا بجسده يعلو في الهواء المندفع المنعش ثم يعود بثقة على قدمين راسختين، وفكر لوهلة غير مصدق أن شيئا كهذا يحدث له، قد يعرض كاحله للكسر في أية لحظة في هذا العشب الكثيف المتشابك. طوى المرج واثبا فوق الصخور كما لو كان ظبيا صغيرا ؛ وأخيرا وصل إلى طريق مسدود تنحدر فيه الأرض بحدة من أسفله نحو النهر؛ لقد ركض لميلين عبر أعشاب يصل طولها إلى خصره، وقد كان يتنفس بصوت مبحوح ولم يعد يستطيع الغناء.. اعتلى صخرة و نظر إلى أسفل نحو مساحات الماء التي التمعت عبر الأشجار المثنية ثم فكر فجأة: أنا في الخامسة عشرة! الخامسة عشرة!
بدت الكلمات جديدة له؛ فأخذ يرددها بتعجب، و بحماس مفعم؛ تحسس سنوات عمره في يديه كما لو كانت كل واحدة منها حصاة رخامية مشرقة ورائعة: هذا ما هو عليه: خمسة عشر عامًا من هذه التربة الغنية، وهذا الماء المتدفق بمهل، والهواء المفعم برائحة التحدي سواء كان قائظا و خانقا قبل الغروب، أو كان -كما هو الآن- منعشا خفيفا كالماء البارد.
لم يكن هناك شيء يعجز عن فعله، لا شيء!
أتته رؤية وهو يقف هناك، كطفل يسمع كلمة "الخلود" و يحاول أن يفهم معناها فيستحوذ معنى الزمن على عقله. استشعر الحياة أمامه كشيء رائع و عظيم؛شيء ملكه؛ وقال بصوت عال والدماء تندفع نحو رأسه: كل عظماء العالم كانوا مثلي الآن وليس هناك شيء ما لا أستطيع أن أصيره، لا شيء لا أستطيع القيام به؛ لا توجد دولة في العالم لا أستطيع أن أجعلها جزءا مني لو أردت. أنا أحتوي العالم. بإمكاني أن أصنع به ما أشاء لو أردت.
أستطيع أن أغير كل شيء سيحدث: الأمر عائد لي ولما أقرره الآن.
الإصرار والصدق و الشجاعة فيما كان صوته يقوله أبهجتْه فعاد يغني مجددا بأعلى صوت له، تردد صدى صوته في باطن النهر، كان يتوقف لسماع الصدى ثم يغني مجدّدًا: يتوقف ثم يصيح. هذا ما كان الأمر عليه! ـــ يغني إذا أراد وعلى العالم أن يجيب.
توقف هناك لدقائق، يصيح و يغني منتظرا رجع الصوت المموج الجميل؛ حيث تأتي مرة أخرى أفكاره الجديدة القوية وتتدافع في رأسه، كأن أحدهم يجيبه ويشجعه، حتى امتلأ ممر النهر بأصوات ناعمة تصطدم ذهابا و إيابا من صخرة إلى أخرى فوق النهر.
فجأة بدا و كأن هناك صوت جديد؛ أرهف السمع و أصابته الحيرة فالصوت لم يكن صوته! مال إلى الأمام و قد تحفزت أعصابه و لكن جوارحه ظلت ساكنة تماما..في مكان ما بقربه كانت هناك ضوضاء ولكنها ليست لطائر مغرد، ولا لهدير الماء الساقط، ولا لحركة الماشية المتثاقلة.
هاهو الصوت مجدّدًا. في الصمت العميق للصباح الذي يخبئ مستقبله وماضيه، كان صوت ألم، وتكرر مرارا ومرارا: كان عبارة عن صرخات قصيرة كما لو أن أحدا ما أو شيئا ما ليس لديه نفس ليصرخ، تنبه ونظر من حوله مناديا الكلاب، لكنها لم تظهر، كانت قد رحلت لشأنها و أصبح هو وحيدًا.
هو الآن متزن تماما، و قد ذهب الجنون كله، قلبه ينبض بسرعة بسبب هذا الصراخ المذعور،
نزل من على الصخرة بحذر وتوجه ناحية سياج من الأشجار ، كان يسير بحرص فمنذ وقت ليس ببعيد شاهد فهدا في هذه البقعة تماما.
توقف عند حافة الأشجار وأمعن النظر وهو يمسك البندقية متحفزا؛ تقدم و هو ينظر حوله بثبات وضاقت عيناه، ثم و مرة واحدة في منتصف سيره ترنح و ظهرت على وجهه ملامح الذهول، هز رأسه غير مصدق لما تراه عيناه.

هناك، بين شجرتين، على خلفية من الصخور السوداء الصغيرة كانت هناك صورة بدت قادمة من حلم، حيوان غريب لديه قرون و ساقه مضرجة بالدماء، ولكنه كان شيئا لم يسبق له أبدا تخيله من قبل. كانت حالته رثة و بدا كظبي صغير أشعث لديه خصلات وبر سوداء تقف مبعثرة على جسده بأكمله، بالإضافة إلى رقع صغيرة من اللحم المسلوخ بالأسفل.. ولكن الرقع المسلوخة كانت آخذة في الاختفاء تحت شيء أسود يذهب و يأتي مجددا في كل مكان.. طوال الوقت كان الحيوان يصرخ صرخات قصيرة لاهثة و يتحرك مترنحا من جنب إلى آخر و كأنه أعمى.
ثم فهم الفتى: إنه ظبي بالفعل، ركض إليه مقتربا لكنه توقف مرة أخرى ، أوقفه خوف جديد؛ من حوله كان العشب يهمس كما لو كان حيا.
تلفت بقوة حوله ثم أسفله. الأرض كانت سوداء بالنمل، عدد هائل من النمل النشيط لم ينتبه لوجود الفتى، ولكنه كان يسرع ويهرع نحو الجسم الذي يصارع، كماء أسود ملتمع يسيل على العشب.
و إذ هو واقف يتنفس، والشفقة والذعر يسيطران عليه سقط الحيوان وتوقف الصراخ، .. الآن لا يستطيع سماع شيء سوى عصفور وحيد يغرد، و صوت حفيف و همس النمل.
حدق حوله في السواد الملتوي الذي يهتز بشكل تشنجي مع انتفاض الأعصاب مع الحشرجة الأخيرة، ثم بدأ يهدأ.. كانت هناك انتفاضات ضعيفة من الكتلة التي أصبح من الصعب تمييز أنها لحيوان صغير.
خطر إلى ذهنه أنه يتوجب أن يطلق عليه النار و ينهي آلامه؛ رفع بندقيته ثم خفضها مجددا فالظبي فقد إحساسه وصراعه كان مجرد مقاومة ميكانيكية للأعصاب، ليس هذا ما دفعه لإعادة سلاحه، لقد كان شعورا متعاظما من الغضب والبؤس والاحتجاج الذي انعكس على تفكيره:
إذا لم آت لكان مات هكذا فلم يجب علي التدخل؟ في كل مكان في الدغل تحدث أشياء كتلك؛ إنها تحدث طوال الوقت؛ الحياة تسير على هذا المنوال، الكائنات الحية تموت في ألم ومعاناة. قبض على سلاحه بين ركبتيه وأحسّ في أعضاء جسده هو ألمًا رهيبًا متزايدًا؛ ألم الظبي المتشنج الذي فقد قدرته على الإحساس، جز على أسنانه وردد مرارا وتكرارا في صوت مكتوم: لا أستطيع أن أوقف هذا الأمر.. لا أستطيع..لا شيء بوسعي أن أفعله.
أراحه أنه لم يكن يتوجب عليه أن يتخذ قرارا بقتله، خاصة و ذاك الشعور يسري في كل جسده: "هذا ما يحدث .. هكذا تسير الأمور.. لقد كان صوابا"
هذا ما شعر به؛ ما يحدث صحيح ولا شيء يستطيع أن يغيره.
إدراكه للفناء، و لما يجب أن تكون عليه الأمور سيطرا عليه وللمرة الأولى في حياته كان غير قادر على القيام بأدنى فعل للعقل أو الجسم عدا أن يقول: " نعم نعم، هذه هي الحياة".
توغل هذا الإدراك في لحمه و عظامه و تضخم في الزوايا الأبعد من عقله غير عازم على تركه أبدا، وفي هذه اللحظة لم يكن بإمكانه أن يقوم بأدنى فعل من الرحمة، فهو يعرف - كونه قد عاش فيه طوال حياته -؛ المرجَ الشاسع القاسي الذي لا يتغير، حيث في أي لحظة في ليلة ما قد يتعثر أحدهم فوق جمجمة أو يسحق هيكلا عظميا لحيوان صغير.
شاعرًا بالمعاناة، شاحبا وغاضبا ولكنه أيضا راضيا على نحو ما برزانته و هدوئه، وقف هناك متكئا على بندقيته مراقبا الكتلة السوداء المهتاجة تصغر شيئا فشيئا.. عند قدميه الآن كان النمل يتقاطر عائدا بفتات وردي في فمه، وكانت هناك رائحة لاذعة في فتحتي منخاره. تحكم بصعوبة بالعضلات المتشنجة بلا جدوى لمعدته الخاوية مذكرا نفسه: على النمل أن يأكل كذلك! ومع هذا وجد دموعه تنساب على خديه، وملابسه قد تشبعت بعرق ألم هذا الكائن الآخر.
الكتلة كانت قد زادت صغرا الآن، تبدو كشيء لا يمكن التعرف عليه، لم يعلم كم مر من الوقت قبل أن يرى طبقة السواد الرقيقة انقشعت والعظام البيضاء ظهرت ولمعت تحت ضوء الشمس .. نعم بالفعل، لقد كانت الشمس هناك، في الأعلى تتوهج فوق الصخور. عجبا لم يستغرق الأمر برمته سوى بضع دقائق.
بدأ يسب كما لو أن قصر الوقت كان في حد ذاته أمرا لا يحتمل، مستخدما الكلمات التي كان يسمع والده يقولها.
تقدم للأمام بخطى واسعة، ساحقا النمل مع كل خطوة و نافضا إياهم من على ملابسه، حتى وقف في محيط الهيكل العظمي الذي يرقد ممدّدًا تحت شجيرة صغيرة، كان قد تآكل تماما، ربما ظنه البعض يرقد هنا منذ سنوات لولا وجود الفتات الوردي للغضروف، وحول العظام كان النمل ينحسر مبتعدا وقد ملأ مخالبه باللحم.
نظر إليهم الفتى ، حشرات سوداء كبيرة وقبيحة، بعضهم كان يقف محدقا لأعلى فيه بعيون صغيرة لامعة.
"اذهبي بعيدا!" قالها للنمل ببرود شديد. "أنا لست لك- ليس بعد على أية حال، اذهبي بعيدًا." هيئ له أن النمل سمع كلامه و دار مبتعدا .
انحنى فوق العظام ولمس تجاويف الجمجمة،هنا كانت العينان، قالها في نفسه متعجبا، متذكرا عين الظبي التي كانت داكنة و رقراقة. ثم ثنى قصبة الساق الأمامية التحتية، مؤرجحا إياها يمنة ويسرة براحة يده.
هذا الصباح، منذ ساعة مضت ربما، هذا المخلوق الصغير كان يخطو في خيلاء و حرية عبر المرج، شاعرا بقشعريرة برد على جلده كما شعر هو تماما و انتعش بها. يسير على الأرض بخيلاء وهو يحرك قرونه ويهز ذيله الأبيض الجميل في مرح، مستنشقا هواء الصباح البارد، و يجوب أنحاء المرج ملكيته كالملوك والغزاة، حيث كل نصل للعشب ينمو منفردا من أجله وحده، وحيث النهر يُجري ماء رقراقا صافيا ليرتوي منه. ثم ما الذي حدث؟ شيء سريع واثق الخطى لا يُعقل قطعا أن يقع فريسة لسرب من النمل.
انحنى الفتى بفضول على الهيكل العظمي، ثم رأى أن الساق الخلفية العلوية تمزقت في وجه الموت العصيب، قد انقصمت في منتصف الفخذ مما جعل العظام المكسورة تنتأ فوق بعضها في مشهد مريع. حسنا هذا ما حدث! نعم هذا هو! مشى الظبي وهو يعرج إلى كتل النمل و لم يستطع الهرب فور شعوره بالخطر. حسنا و لكن كيف كسرت ساقه؟ ربما سقط؟ لكن مستحيل فالظباء تتميز بخفة حركتها ورشاقتها الشديدة، هل نطحه قرين حقود؟
ما الذي يمكن أن يكون قد حدث؟ ربما ألقى بعض الأفارقة عليه الحجارة كما يفعلون دوما للحصول على اللحم فأصابوا ساقه. نعم بالتأكيد هذا ما حدث.
بينما كان يتخيل جماهير السكان الأصليين وهم يركضون و يصيحون، والحجارة المتطايرة و الظبي يركض سريعا، قفزت صورة أخرى إلى مخيلته، رأى نفسه في أي صباح من تلك الصباحات المشرقة منتشيا بالإثارة، يحاول أن يحدد موقع ظبي لا يستطيع رؤيته بالكامل، رأى نفسه و قد أخفض بندقيته متسائلا إذا كان أصابه أم لا، مقررا في النهاية أن الوقت قد تأخر و عليه أن يلحق الإفطار، والأمر لا يستحق الوقت الذي سيتتبع فيه لأميال حيوانا من المرجح جدا أنه قد هرب منه.
للحظة لم يرد أن يواجه الأمر . إنه ليس سوى فتى صغير مجددا، يركل متجهما الهيكل العظمي و قد نكس رأسه في رفض لتقبل المسؤولية.
عدل قامته و نظر نحو العظام وعلى وجهه تعبير غريب من الحيرة، لقد استنفذ كل الغضب بداخله، وعقله الآن خاوي تماما، كل ما يستطيع أن يراه حوله سرب النمل و هو يختفي بين الأعشاب، والضوضاء الهامسة وذلك الطنين يضعف كحفيف جلد ثعبان.
أخيرا التقط سلاحه و سار نحو المنزل، أخبر نفسه بشيء من التحدي محاولا أن يقنع نفسه بأنه يريد تناول إفطاره، وأن حرارة الجو آخذة في الارتفاع لدرجة لا يمكن معها التسكع في المرج.
أما الحقيقة فلقد كان متعبا حقا، سار بثقل دون أن ينظر إلى موضع قدميه، وقبل أن يرى منزله توقف عاقدًا حاجبيه. هناك شيء عليه أن يمعن فيه التفكير. إن موت هذا الحيوان الصغير أمر متعلق به، و لم ينته منه إطلاقا، وهو الآن يقبع -متململا- خلف عقله بشكل مزعج.
و بحلول الصباح الثاني سوف ينعزل عن الجميع و يذهب إلى المرج ليفكر في الأمر.
___________________________________
* فيلد: حقول الرعي في جنوب أفريقيا

الخميس، 18 أبريل 2013

إخوة يسوع وأخت هارون

كمسلم عليك أن تفهم مفتاح عقيدة النصارى، لتعلم كيف يبررون لأنفسهم ما يؤمنون به.
وهذا المفتاح ببساطة هو الإيمان بالرمزية. أي تأويل النص إلى معنى رمزي يغير من مدلوله الظاهر، فتختفي التناقضات الواضحة!

كل تعليمات وأوامر العهد القديم (التوراة) يقوم المسيحيون بالتنصل منها عن طريق القول بأنها كانت عهدا "قديما" بين الإله والبشر، وتم إبطالها بأن قدم المسيح نفسه قربانا. أي أن خطايا البشر غفرها الإله بأن قام بقتل جزء منه (أي المسيح الذي يؤمنون أنه جزء من الثالوث الإلهي) ثم انتهت المسرحية بالطبع بأن عاد هذا الجزء للحياة مرة أخرى، وتم المراد!

لكن المشكلة التي واجهت النصارى بعد ذلك كانت في كيفية تأويل قصص التوارة بحيث تطابق العقيدة النصرانية الكنسية الجديدة. فمن الواضح طبعا أن "الكتاب المقدس" في أسفاره الأولى لا يتكلم بحرف واحد عن مسألة أن الإله في الحقيقة هو ثالوث.. لكن الأسفار الإنجيلية التي تأتي بعد ذلك في الكتاب تقول بهذا. فكيف يمكنهم التوفيق؟
الحل كان في تأويل كل النصوص القديمة بأنها مجرد رموز وحكايات تبشر بقدوم الحدث الأكبر، أي نزول ابن للإله ليفدي البشرية من متاعبها وخطاياها. وتأويل كل أسلوب تعظيم في التوراة للإله، مثل (خلقنا.. جعلنا.. وقلنا لهم.. إنا نحن نحيي الموتى..) بأنه كان رمزا يقصد الإله به أن يقول: أنا ثلاثة، أب وابن وروح قدس!!

لكن مشكلة جديدة ظهرت وواجهتهم. فحتى نصوص العهد الجديد (الإنجيل) تتناقض مع بعضها ومع المعتقدات التي وضعتها الكنيسة كأساس للدين الجديد. وهذا ما سأتحدث عنه هنا.
فهل تعلم مثلا أن الكاثوليك والأرثوذكس يؤمنون بأن مريم هي أم الرب، وأنها ظلت عذراء بتول إلى نهاية حياتها؟
وهل تعلم - في نفس الوقت - أن نصوص الإنجيل تشير إلى أن المسيح كان له إخوة فعليون، ومنهم (يعقوب أخو الرب) ؟!!
فكيف خرجوا من هذه الورطة؟
***
كان الحل ببساطة هو أن يقولوا أن المقصود بأن يعقوب هذا "أخ" للمسيح هو أنه قريب له في النسب.
وهو كما ترى حل بسيط جدا.. غير أنهم يقولون أنه ابن خالة المسيح، وأن أمه كان اسمها مريم أيضا، كما تقول النصوص عندهم. وبهذا يكون لمريم العذراء أخت اسمها مريم!
البروتستانت أراحوا أنفسهم من تناقضات النص في المسألة وقالوا النص كظاهره.. مريم أنجبت إخوة للمسيح بعد ولادته. لكن هذا تفسير يرفضه الأقباط والكاثوليك. فكيف يحمل نفس الرحم الذي حمل "تجسد الرب" شخصا آخر بشريا عاديا؟!
***
وغرضي من الموضوع ليس بحث تفاصيله، بل توضيح تناقض النصارى عندما يشيرون لآية سورة مريم التي يصفها فيها بنو إسرائيل بأنها "أخت هارون".
إذ يقول النصارى، كيف يقول قرآنكم أن مريم هي أخت هارون الذي هو أخو موسى، مع البعد الزمني الكبير جدا بينهما؟
وطبعا يرفضون فهم معنى الآية السليم.. فاليهود كانوا يوبخون مريم لما رأوها قادمة بطفل وهي لم تتزوج، فقالوا لها يا عابدة وتقية ويا شبيهة هارون النبي في العبادة والإيمان، ويا ابنة امرأة صالحة وأب صالح، كيف تقترفين مثل هذا الجرم الشديد.
يا أختَ هارون ما كان أبوكِ امرأَ سَوْءٍ وما كانت أمّكِ بغياً      (مريم 8)
فمقصودهم بالأخوية لهارون أنها شبيهة بالنبي هارون، أو بأحد الصالحين العابدين المشهورين والذي كان اسمه أيضا هارون. فاليهود كانوا - مثلنا - يسمون أبناءهم بأسماء الصالحين. فانا مثلا - ويا للهول! - اسمي محمد!!
فهل يا ترى سيفهم النصارى من هذا أني محمد صلى الله عليه وسلم؟!
ويا ترى كيف يفسرون أن هناك صحفي شهير اسمه إبراهيم عيسى.. مع العلم أن هناك فاصل زمني كبير بين الرسولين؟!!
أنا أمزح طبعا.. لكنها كوميديا سوداء تسخر من جهل كل مسيحي لا يزال يصر على أن القرآن يقصد أن مريم العذراء هي أخت هارون أخو موسى.
***
فعجيب جدا أن تجد أحد الأقباط على المنتديات يخرج منه أمران متناقضان في نفس الوقت، دون أن ينتبه. فيقول للمسلمين: كيف يقول قرآنكم عن مريم أنها أخت هارون مع أنها لم تكن أخته فعلا. ثم يقول للنصارى إخوانه: الإنجيل طبعا لا يقصد أن يعقوب هو أخو المسيح فعلا عندما يقول أنه أخوه (!!)
وهذا - لعمري - هو عين التفسير بالأهواء.. وتحريف كل نص لا يوافق هواهم.
***

وإلى هنا تنتهي التدوينة، لكن سأضع بعض النصوص التي تخص الموضوع، لمن يريد مراجعة المسألة.

وأزيد أيضا فأنصح كل من يسمع أحد النصارى يتكلم في مسألة "أخت هارون" بأن يرد عليه تلقائيا بمسألة "يعقوب أخو المسيح".. فسيجد ساعتها ما يسره، وسيرى بنفسه ملامح تشبه ملامح النمرود حين رد عليه الخليل إبراهيم.. فبُهت الذي كفر !
ومسألة تشابه الأسماء لها رد آخر جميل، لكن لا تطمع كثيرا أن يفهمه عوام النصارى إن أشرت إليه لجهلهم عادة بالمسائل اللغوية وبعبرية التوراة. فالمسيح مثلا كان اسمه هو اسم أحد الأنبياء عند بني إسرائيل، لكن تحويله إلى اليونانية أخفى هذه المسألة وأتاح لمؤلفي الإنجيل أن يحرفوا معنى اسمه بحيث يوافق عقيدة ""ابن الإله الذي خلص البشرية"!
فاسم عيسى عليه السلام كان - بطبيعة الحال - هو اسم باللغة العبرية، بصفته آخر أنبياء بني إسرائيل. واسمه كما يقولون هو: يهوشوع، أي يهوه يخلص، أي الله يخلّص. وهو نفسه اسم فتى موسى، يوشع بن نون. وهو نفسه ما تحول بعد ذلك إلى كلمة يسوع!
وتم تغيير المعنى بحيث يتحول من (الله يخلص) إلى (خلاص الله) أي (هو الله الذي سيخلص الناس) !! وأخذوه كنبوءة بالموت على الصليب لخلاص البشرية.
والرد هنا هو، لو كان هذا هو معنى الاسم فهل كان النبي يوشع بن نون أيضا هو المسيح المنتظر ابن الإله مخلص البشرية؟!
وطبعا لن تجد ردا منطقيا منهم.
بل إن الأستاذ رؤوف أبو سعدة يقول في كتابه (العَلم الأعجمي في القرآن) أن الاسم فعلا يمكن أخذه كنبوءة لما حدث للمسيح بأن "خلصه" الله من بين أيدي من أرادوا قتله، فرفعه إليه!
رحم الله الأستاذ أبو سعدة، وجزاه بما نفع المسلمين بكتابه القيم النادر المثيل.
***
يوحنا 19: 25 "وكانت واقفات عند صليب يسوع، أمه، وأخت أمه، مريم زوجة كلوبا، ومريم المجدلية"
لاحظ انتشار اسم مريم بين بني إسرائيل كما هو واضح. ونفس الشيء مع اسم هارون بالطبع.

يروي إنجيل مرقس في الإصحاح السادس على لسان اليهود الهازئين بالمسيح:  "أليس هذا هو النجار ابن مريم، وأخو يعقوب ويوسي ويهوذا وسِمعان؟.. أوليست أخواته ههنا عندنا؟"
يقصدون أنه "مجرد واحد من العامة"، فمن أين له هذه الحكمة والمواعظ والمعجزات.

يقول بولس في رسالته إلى أهل غلاطية أنه رأى "... يعقوب أخا الرب"  غلاطية 1: 19
***





(إضافة)

البحث في هذه المسائل من الأمور الشيقة جدا، لكن تحتاج معرفة قوية أولا بكل حقيقة إسلامية عن الموضوع محل البحث قبل الدخول في مقارنات توراتية أو إنجيلية.. وإلا تشتت فكر الباحث المسلم، فيقبل نصا هو في الحقيقة محرف، أو يرفض نصا هو في الحقيقة سليم وموافق للشريعة.
ومسألة تشابهات الأسماء هذه واسعة. فأخت موسى التي تتبعته في التابوت تسمى في التوراة مريم. إذن هارون كانت له أخت فعلا اسمها مريم!
وأبو موسى وهارون اسمه بالطبع عمران. وأبو مريم اسمه عمران!
وعمران اسم هام عندنا حيث أن ثالث سور المصحف هي سورة آل عمران.. أي ابنته مريم وحفيده عيسى بن مريم.
ويوشع بن نون هو فتى موسى في قصة الخضر والحوت الذي هرب في البحر. وكلمة نون طبعا تعني الحوت! وانظر قصة يونس "ذي النون" الذي التقمه الحوت. وقصته في التوراة تجدها تحت اسم يونان النبي.

الأربعاء، 17 أبريل 2013

محذوف محذوف يا.. تعليقي

تعودت أن يكون حذف تعليقاتي على الفيسبوك هو على يد صفحات الفلول فقط.. لأن اليوم للأسف رأيت أن "زملاء الكفاح" لا يقلون تعصبا وضيق أفق!
المهندس المؤلف محمد حمدي غانم (الذي أحترمه وأحب كتاباته من قبل أن أعرفه وقبل الثورة بسنوات) لم يحتمل تعليقي على مسألة تقارب الإخوان من الشيعة وإيران.. فقام بحذفه وحجبي عن التعليق مستقبلا.

هنا تجد ما كتبه على صفحته بالفيسبوك:

أما تعليقي فكان بالعامية لتوصيل ما شعرت به ساعتها من صدمة. فالدفاع الأعمى عن الجماعة والرئيس على حساب الدين والعقيدة هو أمر لا يجب أن نسكت عليه.

((
قدرة الإخوان على خداع النفس بحجج بلهاء هي أمر يفوق الوصف!!.. 
الرافضة هم بذرة نصرانية زرعتها يد يهودية في تربة مجوسية.. يعني مش هنقدر عليهم بحالة الضعف العقائدي إللي إحنا فيها. والمؤسسة "الدينية" الرسمية توجهها صوفي يميل لبدع الشيعة من أيام ما الفاطميين الشيعة أسسوا الأزهر نفسه.
فهمت؟
-----
الطريقة الإخوانية هي فكر قبل أن تكون انضمام لجماعة سياسية. عمرو خالد ومصطفى حسني مثلا وأمثال هذه النوعية ممن يميعون الدين أدخلهم تحت اسم الفكر الإخواني.
الإخوان فشلوا في إصلاح السياسة والاقتصاد، فلا تفسدوا الدين أيضا قبل أن تنتهي فترة الرئاسة السوداء التي ابتلينا بها.
فكرة التقارب مع إيران للخروج من عباءة أمريكا فكرة مضحكة وساذجة وبلهاء!!.. 
عنصرية العنصر الإيراني + أسلوب التقية + مصالحهم مع أمريكا في العراق + الكره التاريخي للسنة يجعل أي أمل في التقارب هو وهم.
حسن البنا هو من أدخل هذه الفكرة للأسف في عقول الإخوان بكلمة أن الإخوان دعوة سلفية وطريقة صوفية ومش عارف إيه مهلبية وكلام يخدع الشباب ويحاول أن "يجمع" الجميع!.. التمايز هو ما يجب أن نحافظ عليه لنظل الفرقة الناجية التي تختلف عن باقي الـ 72 فرقة المبتدعة الأخرى.

وأنا عندي استعداد أرد للصبح، لأن المسألة مش اختلاف سياسي.. ده دين يا باشمهندس. ولو كان ثمن الحفاظ على مذهب السنة وعقيدة الرسول والسلف في مصر هو إننا هنشحت فمش مشكلة.
التمييع بلوة إخوانية ابتلينا بها لأن البديل كان منيل بستين نيلة.. لكن لو هيغرقونا في مستنقع الشيعة هيبقى لينا وقفة تانية كمسلمين سنة عارفين عدوهم الحقيقي. والرافضة بكل مذاهبهم وأنواعهم أخـــطـــر عـــلى الأمـــة من اليـــهود والنــــصارى.
))


الخميس، 4 أبريل 2013

بودكاست شبكة السلامة - الحلقة الخامسة


حلقة عن رواية حديث عيسى بن هشام للمويلحي، والإخوة كارامازوف لدوستويفسكي.
هذه الحلقة هي الخامسة من بودكاست شبكة السلامة، ونستكمل فيها مقتطفات الكتب كما في الحلقة التي تسبقها
http://archive.org/download/SalamaCast_05/SalamaCast_05.mp3
رابط التحميل
(ملف إم بي ثري - 9 ميجا)

بودكاست - الحلقة الرابعة

يمكنك تحميل الحلقة الرابعة الجديدة من مدونتي الصوتية: بودكاست شبكة السلامة
SalamaCast Episode 04

مقتطفات من بعض الكتب، مع تعليق عليها
ستجد هنا كلاما عن الهيبيز ومذبحة شارلز مانسون الشهيرة، وكليلة ودمنة، وسرحان بشارة سرحان المتهم باغتيال روبرت كينيدي
http://archive.org/download/SalamaCast_04/SalamaCast_04.mp3
رابط التحميل (ملف إم بي ثري - 11 ميجا)


الثلاثاء، 26 مارس 2013

المُلكُ الجبري الديمقراطي

عمرو عبد العزيز قال ما كنت أريد قوله بالضبط، لذا أعيد نشر مقاله هنا



" تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت" - صدق رسول الله .. 
إن المراحل التي حددها الرسول في حديثه عن الأمة واضحة جداً .. مرحلة النبوة ، مرحلة الخلافة الراشدة و تنتهي بنهاية عهد الخلفاء الراشدين .. مرحلة الملك العضوض و تبدأ بعهد الدولة الأموية و تنتهي بنهاية مُلك العثمانيين .. ثم مرحلة المُلك الجبري .. نهاية الملكية و بداية الحكام الظلمة المفروضين على المسلمين بشكل آخر غير الأسلوب الملكي المتعارف عليه تاريخياً .. تليها مرحلة الخلافة الأخيرة الختامية ..
فأين مرحلة (الديمقراطية) التي نعيشها الآن في ذلك التقسيم ؟ هل تخلصنا حقاً من المُلك الجبري و أصبح بمقدرة المسلمين اختيار حكامهم بحق ؟ هل حققت لنا الديمقراطية ذلك ؟
الحقيقة أن المسلمين لازال قرار اختيار حكامهم بأيدي القوى العالمية الحاكمة .. لكنها فقط غيرت وسائل اختيار الحكام .. فبدلاً من جعل أمر اختيار الرجل الجديد موكلاً الى جماعة مغلقة تقوم بوظيفة حماية أسس العلمانية و المصالح الغربية - غالباً ما تكون هي الجيوش الحديثة - فانها جعلت الشعب يختار هو بنفسه حاكماً من ضمن ثلة معينة يمكن التحكم في انتقائها بالتهديد العسكري السري أو غيرها من وسائل .. ثم لاحقاً تستخدم وسائل الاعلام بكثافة لتضليل الشعب و توجيهه الى مسار معين ليختار ما تريده القوى العالمية أو من يمكنها على الأقل التفاهم معه ..
اننا بأبسط مقياس رئيسي للديمقراطية ، ألا و هو اختيار الشعوب لحكامها ، نعيش كذبة كبرى .. فلا نحن نختار حكامنا حقاً و لا نختار مسارنا و لا نتحكم في مصائرنا .. 
حقيقي أن الحريات في النظام الديمقراطي أفضل لكنها حريات الكلام و الأفعال الغير مؤثرة ، لا حريات السياسة القوية و الأفعال التي تبني الأمم و تُخرجها من تبعيتها و ذُلها .. 
هل يُمكنك أن تختار حاكماً يطالب بتخصيب اليورانيوم و صنع قنابل ذرية دون عقاب دولي صارم ؟ و من أول جهة داخلية ستمنع اختيار مثل هذا الحاكم ؟
هل يمكنك أن تختار حاكماً يطالب بصنع دبابات و طائرات بكثافة دون عقاب دولي صارم ؟ و من أول جهة داخلية ستمنع اختيار مثل هذا الحاكم ؟
هل يمكنك أن تختار حاكماً يطالب بالخروج من المنظومة المالية العالمية دون عقاب دولي صارم ؟ و من أول جهة داخلية ستمنع اختيار مثل هذا الحاكم ؟
هل يمكنك أن تختار حاكماً يطالب باعلان دعم الجهاد ضد المحتلين المغتصبين دون عقاب دولي صارم ؟ و من أول جهة داخلية ستمنع اختيار مثل هذا الحاكم ؟

اذن فأي حرية تلك التي حصل عليها المسلمون في النظام الديمقراطي ؟ 
انهم لم يحصلوا على حرية حقيقية يمكنها صنع تهديد .. فلنتكلم كثيراً .. لا مشكلة .. و لترصد الأجهزة الأمنية كلامنا دون تدخل غشيم مُبكر كما كان يحدث في الماضي .. 
لكن ان جاوزت حدود الواقع الديمقراطي الذي رسمه لك الآخر العالمي فأنت تعرف عقابك .. الوسيلة الأمنية الرئيسية للنظام الديمقراطي (الاعلام) ستضربك بقسوة .. فان لم تنحن فيمكن معالجة أمرك بعد ذلك بشكل أو بآخر فالحيل الديمقراطية كثيرة و أكثر قدرة من الحيل القمعية .. القمع هو آخر وسائل الترشيد عندما تبدي تصلباً و عناداً لا يلين ..
هذا طبعاً غير التلاعب في الانتخابات نفسها بصور لا يُمكن رصدها .. مثلاً في الانتخابات الأمريكية التي نجح بها بوش الابن قام الجمهوريون فيها بصنع تلاعب في قواعد بيانات المواطنين يُبطل أصوات الآلاف .. فإذا كان الحزب الديمقراطي الأمريكي يعتمد بصورة كبيرة على أصوات السود في تركيبة المصوتين له ، فليتم التلاعب في أصوات هؤلاء السود بطرق ملتفة شديدة الذكاء .. 
هل أنت (جون) الذي قام بعمل مخالفة سير في الولاية المجاورة .. نعم القانون يعطيك الحق في التصويت .. لكن قام (البعض) بالتلاعب في قواعد البيانات بحيث تتحول هذه (الجنحة) الى (جناية) تجعل صوتك يُمنع من الاحتساب ! لماذا ؟ ربما حدث خطأ يا سيدي !
لكن المفاجأة عندما تنظر بصورة احصائية للمشهد من أعلى فتجد أن كافة الذين حدث معهم هذا الخطأ (العفوي) في هذه الولاية كانوا من السود فقط ! ثم تتبع مسار الشركة التي قامت بوضع قاعدة البيانات المعيوبة هذه فتجدها مرتبطة بالجمهوريين !
هذا مثال من عشرات الأمثلة .. لكن لماذا يصمت الديمقراطيون هناك ؟ هل هم مجرد حمائم ؟
كلا .. ليسوا كذلك قطعاً .. بل و لا تفسير لصمتهم سوى أنهم يقومون بأفعال مماثلة في أماكن أخرى ! لتتحول الانتخابات (الديمقراطية) الحرة الى فرصة للتلاعب متى جاءت الفرصة .. حريصين على ألا يبدو هذا التلاعب مستفزاً غبياً .. و هكذا يعيش الشعب الأمريكي سعيداً في ظلال الديمقراطية التي تعيشها الآن بعض الشعوب المسلمة !

إذن من يختار حُكام المسلمين في الأنظمة الديمقراطية حقاً ؟
إنه مجلس للشورى يرأسه القطب الأوحد و يضم الجماعة الوظيفية التي تحفظ له مصالحة بقوة السلاح (الجيش) ثم بعد ذلك يجئ مقعد العضو المُتغير (حسب الارادة الشعبية الموجهة!) و هو الحاكم الديمقراطي الداخلي .
إن العضو الثالث هو الأقل قدرة لأنه عضو مؤقت ليس له قدرة حقيقية مالم يقم بصنع معجزة تتلخص في اقناع الجماعة الوظيفية الحامية بأن تتبعه مهما كانت التضحيات .. ربما لهذا حافظت لجان العوائق الأولية لاختيار المرشحين على ألا يدخل مرشح يحظى بشعبية كبيرة  أو القدرة البلاغية على صنعها مستقبلياً مما قد يهدد حصص المشاركين في المجلس الحاكم !
إن أمريكا تكره الحكام ذوي الشعبية مهما كان حجم ولائهم لها .. لابد من أن يشعر الحاكم التابع لها و العضو الثالث في مجلس الشورى أنه مهدد دائماً بورقة أمريكية بديلة تجعله يقاتل من أجل نيل رضاها .. ناهيك طبعاً عن أنها لن توافق على دخول مرشح ذو توجه مخيف الى المعركة أساساً .. ذكرى هتلر و الليندي و شافيز و لومومبا الآتين بالديمقرطية لاتزال تؤرقها و لن تقبل بالمغامرة بها في بلد تكمن أقوى نقطة في أهميتها العالمية المُركبة أنها تحمي الدولة الصهيونية .. و كما قال جون ستيوارت الأمريكي ساخراً عندما وجد مرشحاً شيخاً مصرياً للرئاسة في انتخابات 2012 : اننا لم نجعل عندكم ديمقراطية لهذا .. الديمقراطية عندكم مصنوعة لتأتي برجال مثلنا ! مثلنا ! 
اذن فالمُلك من حيث كونه (حفظ مصالح طبقة معينة ارستقراطية و جبر الشعوب على حكام مفروضين من داخل هذه الطبقة يثبتون أركان النظام القائم كما هو) لازال ثابتاً في جوهره لم يتغير .. و انما تغيرت أساليب اختيار المَلك الجبري .. بدلاً من ملك (مُحدد) مفروض بالقهر يصبح ملك (مُحدد) مفروض لكن يوحى عن طريق الاعلام الى الشعب بأنه يختاره بحرية !
إن الديمقراطية التي تعيشها بعض الشعوب الاسلامية حالياً ليست سوى حلقة جديدة من مرحلة (المُلك الجبري) التي ذكرها رسول الله في حديثه الشهير ..
لكن كيف يتم استبدال (المُلك الجبري القمعي) بالـ (مُلك الجبري الديمقراطي) ؟
إذا كانت الأجهزة الأمنية هي خط الدفاع و الهجوم الأول و الرئيسي في الأول ، فما هو خط الدفاع و الهجوم الرئيسي في الثاني ؟
انه الاعلام .. و الديمقراطية بشكل عام لا تُفهم الا بفهم دور الإعلام بداخلها .

_________________

(توطيد المُلك الجبري الديمقراطي)
التجزيئية و الفورية .. نتاجهما المسلم الضائع السلبي :

فلتتأمل هذه الأخبار المتتالية التي تنزل في خلال ساعات قليلية للمواطن :
خبر " قانون جديد للمساعدة في ضبط المسألة الفلانية "
خبر " ثورة كبيرة رداً على قانون كذا "
خبر " مسيرات رداً على قانون كذا "

أخبار متتالية فورية .. آلاف الأحداث المتعاقبة بلا توقف .. أحداث في مدينة معينة .. أحداث ساخنة في البرلمان .. الرئاسة تصنع مشكلة .. انقلاب قطار .. حادثة اغتصاب ..
الاعلام ينقل الأحداث باستمرار .. يقوم بتقديم تفسير سريع جداً لكل حادثة على حدة ثم ينتقل الى الأمر التالي بلا توقف .. مشهد جنوني مشتبك متتالي يعيش المسلم غير قادر على ملاحقته لفرط سرعته .. 
هذه هي (الفورية) و تعني نقل أخبار فورية سريعة بصورة جنونية و لا تتوقف .. و (التجزيئية) و تعني تقسيم الأخبار الى قطع صغيرة لكل منها تفسير بسيط سريع يُنسى بسرعة البرق ثم يتم الانتقال الى ما يليه من خبر (فوري) له تفسير (تجزيئي) !
يعتبر هربرت شيلر أن (التجزيئية و الفورية) هما من أشد أساليب وسائل الاعلام وطأة في تضليل الأمريكان .. و هما مستخدمتان على نطاق واسع في الأنظمة الديمقراطية (أنظمة وسائل الأمن الاعلامي) .. 
ما نتيجة هاتان السياستان الاعلاميتان ؟ انه المواطن السلبي الضائع .. مواطن غير قادر على الحصول على تفسير منطقي و صورة (كلية) حقيقية للمشهد السياسي الجاري أمامه .. أخبار كثيرة جداً لا يتم تقديم رابط معقول بينها تتركه حائراً مشتتاً .. 
لكن ماذا اذا رغبت وسائل الاعلام في توجيهه في لحظة ما الى قضية معينة بنفس هاتان السياستان ؟ انها تنجح بشدة وقتها لأن المواطن فجأة يجد تفسيراً يريحه أخيراً من سلبيته و عدم فهمه !
مثلاً تم استخدام هذه الوسيلة التوجيهية قبل الحرب الثانية الانتقامية على الشيشان في نهاية التسعينيات .. يمكن اعتبار روسيا وقتها كانت أكثر (انفتاحاً و ديمقراطية) من الاتحاد السوفيتي القديم .. روسيا ما بعد البروسترويكا و الجلاسنوست بالتأكيد مختلفة بشكل ما .. لهذا تم استخدام وسيلة اعلامية من وسائل (الأمن الاعلامي الديمقراطي) :
فجأة حدثت تفجيرات للأبنية الروسية .. اختطاف للمواطنين .. قتل للبعض ..
عشرات الحوداث التي انفجرت في روسيا راحت تتابع و تتالى كالنافورة في وسائل الاعلام مما أصاب المواطنين بالجنون و الذعر .. في النهاية قدمت وسائل الاعلام كبش الفداء المطلوب ذبحه : انهم الشيشانيون البربر الأوغاد ! فجأة أصبحت تلك الجمهورية الصغيرة التي لا تملك على أرضها مليوني مواطن مصدر الرعب و الهلع للدب الروسي الى درجة وصوله الى أعماق أحشائه .. الى موسكو نفسها !
صدق المواطنون طبعاً و كان لابد أن يصدقوا فالحملة الاعلامية كانت كبيرة و ناجحة .. ثم بدأت حرب الابادة الروسية للشيشانيين التي قُتل فيها عشرات الآلاف من المسلمين بمباركة الشعب الروسي المُضلل .. طبعاً انكشف بعد هذا - بسبب سيولة روسيا في هذا الوقت - أن الحوادث الارهابية كانت من تدبير الكي جي بي لدرجة أنه عند اختطاف الفرنسي "فنسنت كوشيتل" ممثل مدير هيئة الإغاثة بالأمم المتحدة - وهو الاختطاف الذي ألصقه الكي جي بي بالشيشانيين كالمعتاد - لم يضيع الفرنسيون وقتهم مع هذا الكذب لفارغ و تحدثوا مع الروس مباشرة الى درجة تدخل الرئيس الفرنسي جاك شيراك بنفسه لينجح في الافراج عن مواطنه في النهاية من قبضة الروس !
اذن " التجزيئية و الفورية" تُستخدمان طوال الوقت في الأنظمة الغير معتمدة على "الأمن القمعي" كوسيلة لجعل الشعب مُضللاً تائهاً سلبياً لا يُدرك حقيقة الصورة الكلية لبلده .. هذا في وقت السلم .. أما في وقت الرغبة في تحقيق هدف ما يتم استخدامهما أيضاً بصورة تُزيد من تضليل المواطن كي يُشارك في الايمان بأهداف "السادة السياسيين" ..
فهل المجتمع المسلم ما بعد الثورات في ظل بعض الدول التي اعتمدت النظام الديمقراطي بعيد عن هذا ؟
ألا تستخدم كلاً من "الفورية و التجزيئية" على نطاق سياسي واسع لتضليله ؟
بل ألا تعتمد الأنظمة الديمقراطية نفسها على هذه "الفورية و التجزيئية" لكافة القضايا فيتوه المواطنون لأيام في مناقشات سوفسطائية على قوانين بسيطة فارغة ؟!
كانت الشعوب المسلمة بعد الثورة قد بدأت تنتفض مطالبة بالشريعة كمطلب واضح جداً .. الملايين تحركت في لحظة ما فماذا حدث بعدها ؟
التجزيئية و الفورية .. عشرات المواقف المتتالية و عشرات المخاطر التي ما ان ينتهي المسلم من عبور احداها حتى يجد الأخرى تحاول دهمه .. قانون معين سيشكل خطراً مستقبلياً .. نقاش في وسائل الاعلام عن قضية معينة تشكل خطراً على المسلمين .. تحركات سياسية تهدد طوال الوقت المطالبين بها .. حوادث جزئية و مخاطر متتالية يتم نقلها بصورة فورية لخلق هلع دائم و انتصارات خادعة يتم اكتشاف زيفها فيما بعد فتُزيد من سلبية المسلم اليائس من هذا التلاعب .. انه غير قادر على تكوين صورة كليه كاملة للموقف بسبب تتابع الأحداث و نقل الاعلام لها مباشرة بصورة فورية .. هكذا يقاتل في معارك جزئية فور ظهورها تلهيه طوال الوقت عن ما يحدث حقاً في الصورة الكلية للدولة و الأمة .. ثم وقت الحاجة يتم عمل تضليل كبير له برسم معسكرين وهميين في (المسار الديمقراطي) ليختار أحدهما بينما الصورة الكلية توضح أن المعسكرين لهما نفس الناتج و نفس المصير من حيث تحقيق مصالح (هيئة الحاكمين العليا)!
القارئ لكل هذا قد يهز رأسه في فهم و حماسة لكن المشكلة الحقيقية أنه مع تنوع المخاطر و جاذبية وسائل الاعلام الديمقراطية فانه سينشغل لا محالة بعد وقت قصير بمئات الأخبار (الفورية) ليعيش أسيراً مرة أخرى في قفص (التجزيئية) عاجزاً عن ابصار الصورة الكلية ! عاجزاً عن رؤية واقعه الحقيقي ، وبالتالي عاجزاً عن رؤية حدوده المرسومة بدقة !

_______________

(القدرة على رسم حدود الواقع هي القدرة على السيطرة) !
هذه الجملة العميقة الذكية التي قالها جيري روبين (الناشط الثوري الأمريكي) منذ زمن لو تم استيعابها جيداً لسهل فهم السياسة العالمية في مسألة الديمقراطية المُقدمة لدول العالم الثالث بشكل عام و عالم ما بعد الثورات العربية المسلم بشكل خاص .. وليس في الأمر نظرية مؤامرة ضد المسلمين بشكل خاص ، فالأمريكان مثلاً يستخدمون نفس هذا المبدأ في تضليل شعبهم نفسه ! (لا أمر شخصي في الموضوع انما هو عمل يا صديق) كما يقول المثل الأمريكي البراجماتي !
إن حدود واقعك في الديمقراطية سيكون تشكيل أحزاب .. ولوج العملية السياسية .. تقديم تنازلات تعزز فرصتك كمرشح يرضى عنه مجلس شورى الحكم .. الوصول لمكتب مجلس الشورى للجلوس سنوات أربع لابد أن تُبدي فيها الأدب و الطاعة كي يتم التجديد لك ! ثم تخرج لتُفسح المجال لغيرك بعد انتهاء مدتك !
يؤمن البعض أنه لن يتنازل أبداً .. و الحقيقة أن الدخول الى لعبة أطرافها معروفة جداً كهذه هو تنازل كبير في حد ذاته .. فبينما قد يُعذر حزب آخر مُغفل بعدم درايته بأطراف اللعبة و حقيقة مجلس الشورى الحاكم .. يبدو هذا الاعتذار واهياً بالنسبة لمن يعرف كافة الأطراف و يُصر برغم ذلك على الاشتراك فيها ..
طبعاً لا يوجد شئ اسمه الحتمية في مثل تلك المسائل .. الله وحده علام الغيوب و قد ينصر اناساً تظهر يقينك في فشلهم .. التاريخ الاسلامي فيه عشرات الأمثلة لإناس لم يكونوا بنفس النقاء العقائدي لأشخاص آخرين و مع ذلك جعل الله النصر على أيديهم .. لقد فشل صحابة و مجاهدين أتقياء في فتح القسطنطينية و نجح في فتحها رجل آخر في جيشه التباس ببدع .. لا توجد حتمية تاريخية حقيقية تسمح باليقين في فشل أو نجاح أي مسار .. 
لكن هل يعني ذلك أن تسمح لنفسك بأن يتلاعب بك (الآخر) ؟ أن تسمح لنفسك بعدم كسر حدود الواقع المرسوم و بالتالي عدم الخروج من سيطرته ؟ 
لقد قامت الثورة الايرانية الناجحة بعمل شئ جنوني بينما البلد لازالت هشة واهنة .. لقد قامت من فورها بمحاصرة السفارة الأمريكية بعد نجاح الثورة فشغلت الأمريكان بأنفسهم و بمعتقليهم عن تدبير المؤامرات و بالتالي قطعت يد القوى العالمية المتلاعبة .. رفض الايرانيون مُبكراً جداً أن يكون حاكمهم المُختار مُجرد عضو ذليل في مجلس الشورى العالمي ، خاصة بعد أن كانوا قد قتلوا قادة الجيش و أذابوه فلم يعد لديهم سوى حاكم واحد مُختار من قبلهم .. صحيح أن أمريكا عاقبتهم فيما بعد بتحفيز صدام على الهجوم لكن ايران صمدت و خرجت في النهاية أقوى و أكثر استقلالاً ..
بينما صمد البلاشفة السوفييت في وجه جيوش الأرض و عملائهم الداخليين مضحين بالملايين من أجل نموذج اعتقدوه هو (اليوتوبيا) الأرضية التي تحكم فيها البروليتاريا الفقيرة .. 
لماذا يصمد السوفييت الفقراء الضعفاء من أجل تحقيق حلمهم المادي الفاسد أمام حرب أهلية و غزو من بريطانيا و أمريكا و ألمانيا و اليابان و تشيكوسلوفاكيا و فرنسا و صربيا و اليونان و ايطاليا و الصين بينما نخاف نحن من مجرد حرب مع دولة ضعيفة هشة مثل اسرائيل ؟ هل تهددنا بالإبادة النووية ؟ هل يخاف المسلمون حقاً الموت في سبيل الله ؟ كيف يخاف المسلمون الموت النووي بينما لم يخشاه الفيتناميون في صراعهم مع الأمريكان ؟ كيف يخاف المسلمون الابادة و الجوع و قد صمد من لا يؤمن بإله مثل البلاشفة الحمر في وجه كل العالم بصمود و تمنوا الموت بلا خوف و لا وجل ؟ كيف استطاع هتلر اقناع شعبه بأن لا سبيل للرضوخ أكثر من هذا للإذلال الأوروبي و أن الموت الكريم في سبيل الاستقلال أفضل من العيش الذليل تحت جناح التبعية ؟ كيف استطاع هؤلاء الصمود هكذا مهما كانت التضحيات الشعبية بينما المسلمون و المطالبون بالشريعة من أهل الساسة يخافون اللعب "خارج حدود الواقع المرسوم" كيلا يصيبهم و يصيب شعوبهم الأذى ؟
إن الواجب الحقيقي لنا كشباب مسلم أن نفهم أولاً زيف الأنظمة الديمقراطية في دولها عامة و في دول العالم الثالث و الاسلامي خاصة .. أن نتعرف جيداً على حدود الواقع المرسوم و نحاول كسرها و الخروج من نطاقها بطرح حلول أخرى تهدم التبعية و تهدم الزيف .. أن نأخذ بنصيحة نيكسون الرئيس الأمريكي الشهيرة "عندما تخسر باستمرار عليك أن تغير قواعد اللعبة " .. نعم ، علينا أن نسعى لتغيير قواعد اللعبة كلها أساساً .. و فوق كل ذلك .. أن نُبدي مهارة في إستغلال هامش الحرية الممنوح حالياً لصنع تصور و نموذج واضح لتفكيك أكذوبة الديمقراطية  .. ولكن مع الحرص على ألا نستسلم ، فالنظام الديمقراطي مُعتمد على التنويم الشعبي و الايحاء القوي و التضليل المستمر و قد أثبت الواقع أنه أصعب في الهدم من النظام القمعي الديكتاتوري .. و في نفس الوقت نحرص على ألا ينتابنا الكِبر فنهاجم بضراوة مبالغ فيها اخواننا الغارقين في محاولات كسر الواقع الحالي بفلسفات أخرى .. لا أحد يعلم يقيناً هوية من سينجح في النهاية  .. لكن الأكيد أن من يتنازل منا عن دينه لن ينقلنا الى المرحلة الأخيرة من الحديث النبوي الشهير .. لن ينقلنا الى ما بعد (المُلك الجبري الديمقراطي) .. 
الى مرحلة الخلافة الختامية ..

من المصطلحات السياسية: الجراس-روتس

مع موسم الثورات العربية انتشرت بعض المصطلحات السياسية وصارت حديث المحللين و"الخبراء" الاستراتيجيين.. ومن هذه المصطلحات حركات الـ (جراس رووتس) GrassRoots Movements .. ومعناه الحرفي جذور العشب، ويقصد به وصف الحركات الشعبية التي لم تأت على يد الأحزاب أو التنظيمات السياسية الكبيرة، بل على يد جذور المجتمع وقواعده.
ومصدر التشبيه هو أن العشب أو النجيل يكون ملتصقا بالأرض ومنخفضا، أي أقرب "للقاعدة". ويكون طبعا كثيرا، ويعوض قصر قامته بأنه منتشر وواسع المساحة.

وأظن أنه من المعلوم الآن أن التخطيط للثورات كان قد بدأ على يد الشباب ومنظمات التمويل منذ فترة طويلة، أعادها البعض لـ 2005.. وأن تزامن ثورة مصر مع تونس لم يكن عفويا بل بتدبير، وهو شيء ليس سيئا بالضرورة. فأي أمر عظيم يحتاج تخطيطا وتهييئا وتمهيدا كي ينجح بإذن الله ويحقق الهدف منه.. وعلينا حساب عواقب الأمور قبل الإقدام عليها.

وكنت بعد الثورة بأيام بدأت نشر نتيجة بحثي في المسألة على المنتديات العربية، في موضوع انتشر وقتها وكان عدد مشاهداته والتفاعل معه بالآلاف.. واسمه (لا تستسلم للراحة الآن.. الثورة الحقيقية على الأبواب)
واستفاد منه عدد من الباحثين وأعادت عدة صفحات على الفيسبوك نشره، وأظنه كان مفيدا في نزع جزء من هالة الانبهار الأولي التي كادت تحول الثورة إلى حالة انقياد أعمى وراء البرادعي وجماعته.

ومن المثير أن هناك مصطلحا آخر مرتبط بالجراس-روتس وهو ما يسمى الأسترو-ترفينج AstroTurfing أي النجيل الصناعي!

ومصدر الاسم هو شركة شهيرة تقوم بتصنيع العشب الصناعي الذي يتم فرشه على أرضية الملاعب والحدائق.
والمقصود به هو الحملات التي يتم تصنيعها بحيث تظهر وكأنها قادمة من الجذور الشعبية في حين أن وراءها شركات كبيرة ودعم خفي يريد توصيلها في هذه الصورة بحيث تكتسب ثقة الشعب لكن تحقق الأهداف التي تسعى هذه المنظمات لها!

مسألة دراسة هذه المصطلحات شيقة للغاية، وكان علينا الاهتمام بها حتى لا يصبح الحال كما هو الآن في الإعلام.. مصطلحات تقال مثل الأخونة والمليشيات والثورة المضادة والدولة العميقة إلخ دون أن يتم "تحرير معناها" - بمصطلح الفقهاء واللغويين - وتحديد مفهومها بدقة، كي لا تصبح عائمة هلامية، تلوكها الألسن قبل تمريرها على العقول.

سلامة المصري

هامش: صفحة الويكي الخاصة بالموضوع تستحق الدراسة ثم الترجمة إلى ويكيبيديا العربية