الجمعة، 10 مايو 2013

عن العنزة وطيرانها..

( إعادة نشر لمقال المهندس وائل حسن الذي يرد فيه على سقطة المهندس حمدي غانم.
للأسف تبرير م. حمدي لكل أفعال الإخوان مؤخرا سبب لي صدمة، خصوصا وأن كتاباته قبل الثورة التي كان يكتبها دون توقيع تختلف تماما عن حاله الآن.
أظن أن الجماعة عنده خط أحمر، ولا يجوز نقدها.. وهو ما يثبت الأفكار الشائعة عن أتباع الفكر الإخواني. فواضح أن أكثرهم يفهم حديث انصر أخاك ظالما أو مظلوما فهما مبتورا، على طريقة لا تقربوا الصلاة! )

http://afkar-abo-eyas.blogspot.com/2013/05/blog-post_4567.html
أثناء مروري اليوم علي الفيسبوك قرأتُ مقالاً صادماً لـ "م. محمد حمدي غانم" يُسمَّي "هل غطت الشرطة عوراتها، حتى تربي لحاها؟"، و يتحدث فيه م. محمد عن قضية ضباط الشرطة الملتحين و أزمتهم مع جهاز الشرطة الذي يمنعهم من مزاولة أعمالهم رغم أن معهم أكثر من حكمٍ قضائيٍ لصالحهم !
م. محمد غانم رجلٌ أحبه و أحترمه و أتابعه منذ وقتٍ طويل، و رغم اختلافي معه في أمورٍ كثيرةٍ إلا أنني كنتُ أراه مجتهداً للوصول للصواب، لكن هذا المقال كان في غاية القسوة و العنجهة و السخافة !، لدرجة أنني لم أستطع منع نفسي من الرد عليه رغم أنني اعتدتُ في الآونة الأخيرة ألا أفعل ذلك نهائياً؛ حفظاً للدين و العقل و الراحة النفسية، لكن هذه المرة كان الأمر فوق الاحتمال،

لذا فهاكم الحوار الذي دار بيني و بين م. محمد علي الفيسبوك دفاعاً عن أعراض أناسٍ لا أدري كيف استساغَ الخوض فيها بهذه البساطة و السطحية !:
المقال موجودٌ علي الرابط:
http://mhmdhmdy.blogspot.com/2013/05/blog-post_8135.html
-----
أنا: اعذرني يا بشمهندس، و لكن مقالك هذا من أسوأ ما قرأتُ لك علي الإطلاق !؛ فقد بنيتَه علي افتراضات:

الشرطة "كلها" فاسدة فساداً تاماً لا شفاء منه.
لا يمكن لرجال الشرطة اتباع السنة بتربية لحاهم و في نفس الوقت القيام بأعمالهم.

و كلا الافتراضين خطأ، و ثانيهما كارثة في حد ذاته !
أما الأول فكلنا يعلم أن الشرطة من أفسد المؤسسات التي كان النظام السابق يحرص علي إبقاء فسادها كما هو إن لم يكن يزيده؛ لتقوية دعائمه و الحفاظ عليه. و لكن هل "كل" من يعملون في الشرطة "ولاد كلب" ؟!
الواقع أن هناك من هؤلاء الضباط من فيه شرف و كرامة، و عمل في هذه المهنة لأنه يحبها و يحب دورها في حياة الناس، كما ستجد محامين يحبون مهنتهم لأنهم يستطيعون الدفاع عن المظلومين من خلالها، مع العلم أن المحاماة نفسها فيها من الفساد ما فيها.

ثم لماذا لم تفترض أن هؤلاء الضباط كانوا فاسدين و هداهم الله بعدما التحقوا بالشرطة؟، نري كثيراً جداً من أهل الفساد يتراجعون عنه عندما يُخالِطون أهل التدين في أسوأ الظروف، أم أن "كل" الشرطة في نظرك عميت أبصارها و لا يُعقل أن يتوب منهم أحد ما دام يعمل شرطياً ؟!


ثم الأدهي و الأنكي أنك تفترض أنه من الأفضل لهم أن ينزلوا لحماية الناس و أعراضهم و ممتلكاتهم بدلاً من هذه الأشياء التي ليس هذا وقتها!،
أعلي أساس أنهم "مئة ألفٍ أو يزيدون" ؟!
أم علي أساس أنهم هم من وضع العقدة في المنشار و رفض تطبيق أحكام شريعة الله تعالي و أحكام القانون الوضعي ؟!

ثم التساؤلات عن كيفية اكتشاف أمن الدولة لإيمان هؤلاء و التزامهم، و هذا يعني أنك نسيت مؤمن آل فرعون الذي كان في حاشية من هو من أظلم الناس في الدنيا و أشدهم بطشاً، و علي الرغم من ذلك استطاع الهرب بجلده و التحايل علي الواقع الكارثي الذي يعيش فيه !

ثم الطامة الكبري أنك تستنتج من كل تلك المقدمات أن الضباط الملتحين بهذا الشكل هم أطراف مؤامرةٍ علي الرئيس مرسي !،
يا عيني !

إذاً فأرجو أن يكتب لنا الإخوان (أو حتي السلفيون) أولوياتهم في هذا العصر السعيد للتمكين حتي منها مذهباً نلتزم به و الأحذية فوق رقابنا، و إلا يمكن اعتبارنا أعضاء مؤامرةٍ علي أهل العقل و الفكر في عصر التمكين !

و بمناسبة الحكم علي أن لحية الضباط ستسيء للسنة لأنهم قد يستغلون بعض أفعال أولئك الضباط بالفيديو، فأحب أن أوجه نظرك إلي أنه من المستحيل الإساءة إعلامياً إلي التيار الإسلامي أكثر مما حدث، أنتَ نفسك كنتَ تنشر منشوراتٍ تقول فيها أن هذا وقت القرارات

الحاسمة من الرئيس مرسي لأن ردة الفعل لن تتعدي ما هو حادثٌ بالفعل منذ مدة طويلة!

صراحة هذا من أسوأ ما قرأتُ لك منذ أن بدأتُ قراءة ما تكتب، اختلفتُ معك كثيراً في أمورٍ عديدة، و لكن هذه المرة تجاوز الأمر الحد إلي درجة أنني أحسستُ أنك مددتَ يدك و صفعتني علي قفاي !؛ فما بين أصولٍ غريبةٍ شاذةٍ منطقياً و شرعياً، و بين استنتاجاتٍ تكاد تتفوق في قوتها علي الأفلام الهندية: كان الناتج صادماً و ينبو عن معظم طرقك في الفهم و الاستنتاج !
لو أراد أحدهم أن يصمك بأنك (و حاشاك أن تكون) "مبرراتياً" لما وجد أفضل من هذا المقال،
و بمناسبة الأصول التي بنيتَ عليها المقال: ألم يكن من الأفضل سداً للذرائع ألا تكتب هذا المقال حتي لا يُهدَر باقي فكرك و تسيء إليه حينما يُهاجِمك أحدهم بسبب هذا المقال ؟!

و بمناسبة التدرج في معالجة فساد الشرطة فهو قول حقٍ يُراد به باطل؛ فهل الشرطة كيانٌ واحدٌ متماسكٌ لا يمكن التعامل مع كل جزءٍ منه بمفرده (حتي بشكلٍ بسيط) ؟!
الواقع أن الشرطة كغيرها من المؤسات الحالية يغلب عليها الفساد، و لكن أفرادها يختلفون في كمية فسادهم، فمنهم من خرج من الملة و يجب قتله قصاصاً (شرعاً و قانوناً)، و هناك من يدخل في باب "الجاهل بدينه الذي لم يربه أهله جيداً، و بين هؤلااء و هؤلاء أطيافٌ شتي.
فلماذا الإصرار علي أن معالجة فساد الشرطة هو مجموعةٌ من الحطوات الثابتة لكل أفراد ذلك الجهاز ؟!
ألا يمكن عقلاً و شرعاً و قانوناً أن يكون التطهير multi-tasked ؟!
يمكنك إجراء رقابةٍ إدارية و قضائيةٍ و ماليةٍ علي الشرطة لضمان إيقاف الفساد المادي، و في نفس الوقت يمكنك البدء بإجراء دوراتٍ تثقيفيةٍ لهم لغسل عقولهم من القذارات التي حُشيَت فيها في العهود السابقة، و في نفس الوقت تبدأ بمكافأة شرفائهم و المخلصين منهم، و في نفس الوقت تتيح الحرية لمن يرغب في الالتزام الديني ليكون مثالاً لمن حوله و يكسر الحاجز الجليدي النفسي.

صراحة: كلما قرأتُ مقالك رأيتُ أنه "أعمي رأي حادث سرقة فنادي شرطياً أصم"!، و أنك تقول بواضح الألفاظ "عنزة و لو طارت" !

م. محمد :عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ليأتين على الناس زمان يكون عليهم أمراء سفهاء،يقدمون شرار الناس ويظهرون بخيارهم،ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها فمن أدرك منكم فلا يكونن عريفاً ولا شرطياً ولا جابياً ولا خازناً".

عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أوحى الله إلى ملك من الملائكة أن اقلب مدينة كذا وكذا على أهلها قال: إن فيها عبدك فلان لم يعصك طرفة عين؟ قال: اقلبها عليه وعليهم فإن وجهه لم يتمعر في ساعة قط")
فما بالنا بأعوان الظالمين؟.. هل يكفي تربية لحية ليكفروا عن جرائمهم في حقنا؟.. هلا حاكمناهم أولا لنقتص منهم؟!

يروى عن الامام الإمام أحمد بن حنبل أنه حينما كان سجيناً، سأله السجان عن صحة الأحاديث التي وردت في أعوان الظالمين فقال له: الأحاديث صحيحة.
فقال له السجان: هل أنا من أعوان الظالمين؟
فقال له: لا، لست من أعوان الظالمين، إنما أعوان الظالمين من يخيط لك ثوبك ومن يطهو لك طعامك ومن يساعدك في كذا وكذا، أما أنت فمن الظالمين أنفسهم.
وروي أيضا انه جاء خياط إلى سفيان الثوري فقال: إني رجل أخيط ثياب السلطان، هل أنا من أعوان الظالمين ؟
فقال سفيان: بل أنت من الظالمين أنفسهم، ولكن أعوان الظالمين من يبيع منك الإبرة والخيوط ..!!

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
( وقد قال غير واحد من السلف أعوان الظالمين من أعانهم ولو أنه لاق لهم دواة أو برى لهم قلما ومنهم من كان يقول بل من يغسل ثيابهم من أعوانهم)
قال تعالى ( وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ) ))

يقال إن ذاكرة الشعب المصري ثلاثة أيام.. وهذه هي أم كل مشاكلنا!!
-----

أنا: حكمتَ عليهم بأنهم كانوا يساعدون في تعذيب الناس و يجب محاكمتهم و القصاص منهم: فأين دليلك علي ذلك ؟!
أما أحاديث رسول الله صلي الله عليه و سلم في عدم العمل عند الظالمين فيقابلها أحاديث الخضوع للحاكم و إن كان ظالماً ما دام لم يطلب مني معصية، يعني لو كان الضابط يؤدي عمله في حراسة الناس و الحافاظ علي أرواحهم و أعراضهم فليس هناك سبيلٌ لاتهامه بأنه من أعوان الظلمة، و إن كان جلاداً أو معذِّباً أو حافظاً لـ"النظام الظالم" فساعتها يكون بالفعل من أعوان الظلمة.
و إلا فلنترك أعراض الناس و أرواحهم بحجة أننا لا نريد معاونة مبارك علي ظلمه، و هكذا تأكلنا كلاب الطرق !، و أسير مع زوجتي فيتم اختطافها أمام عيني و يُهتَك عرضها لأن ضباط الشرطة "لا يريدون معاونة الظالم مبارك" !!!

مع العلم أنه لو صح عن رسول الله صلي الله عليه و سلم المنع التام مهما كانت الظروف فإني أرجع عن القول بإباحة العمل كشرطيٍ لحفظ أمن الناس (و ليس أمن النظام).

أما ابن تيمية رحمة الله عليه فحينما كان بإمكانه أن يُعاقِب القضاة الأشاعرة الذين جعلوه "كعب داير" بين سجون بلاد الإسلام: سامحهم لأنه لا بد من قضاةٍ لحفظ مصالح المسلمين !

فبفرض أن العمل لدي مبارك كان كله حراماً بدون الالتفات إلي أي أمرٍ آخر، و بفرض أن عمل الضباط الملتحين كان يساعد بشكلٍ أو بآخر في إعطاء نظام مبارك الفاسد هيبةً و قوة: فلا يمكنك أن تتهمهم بأنهم كانوا يعذبون الناس و يجب محاكمتهم قبل الدفاع عن حقهم في إطلاق لحاهم، إلا بدون دليل؛ فليست أعراض الناس مشاعاً كما نري بين الأطراف المتناحرة التي يحلوا للكل فيها اتهام الآخرين بالغفلة و/أو العمالة و/أو التفريط أو الغلو، و لو طبقنا معايير الفصل في الأخبار كإسلاميين لوجدنا الجميع بدون أدني استثناء حمقي أو بلهاء أو "طيبين قوي يا خال" !
حتي الشيخ حازم (و أنت تعلم أني أحبه و أُجلُّه) فيه من التهاون مع @#$$% الإخوان ما أجده مفزعاً، و آخذ عليه أموراً هي الآن بسيطة و لكنها تنذر بكوارث فيما بعد، هذا و أنا أراه الأعقل حين الحاجة للعقل و الأجرأ حين الحاجة للحزم، فما بالك بالإخوان و تميعهم و النوريين الذين لا أجد وصفاً لأفعالهم الأخيرة ؟!!!

بصراحة لقد مللتُ من كل الأطراف إلي المنتهي؛ كلهم يتحدثون بأسلوب "اللي إيده في المية"، و لا يجيدون سوي طعن بعضهم البعض و الابتسام في وجه العالمانيين، حتي حزب النور و حازمون انضموا بجدارةٍ إلي معسكر "ضبِّش يمكن تيجي صح" !

المهم الآن أن الضباط الملتحين لهم الحق الشرعي و القانوني في إطلاق لحاهم و العمل لإعادة الأمن للناس، و من يرميهم بتهمةٍ فعليه الإتيان بالدليل، و ولي الأمر ملزَمٌ بأن يُرغِم جهاز الشرطة علي تنفيذ الأحكام القضائية، أم أنه لا يجيد سوي الإشادة بالفنانين و الفنانات و الإثناء عليهم بما يعلمه مما "وراء الكواليس" و لا نعلمه نحن العامة الحمقي ؟!

الحكاية بسيطة جداً جداً: إما أن ترغم الجميع علي احترام القضاة، أو أن تتيح للجميع أن "يبلطج" كما يريد، أمأن الإخوان حينما كانوا يطلقون دعايتهم الانتخابية لـ د. مرسي كانوا "بياخدونا علي قد عقلنا" ؟!
الجواب الوحيد أن الإخوان يتعاملوون مع بقية التيار الإسلامي كأنهم قطيعٌ من الأغنام يمكن أن يُوعَد بما يريد، ثم بعد ذلك نستطيع التملص ما وعدناه به و إلا صار "متشدداً" و "متنطعاً"!
-----

الخميس، 2 مايو 2013

تدوينة شخصية 4

قبل عشر سنوات مر عليّ يوم من تلك الأيام الغريبة التي تغير حياة الإنسان ومساره.
ومع نهايته كنت قد فقدت الكثير بالفعل.
فقدت الشعور بالأمن.. والأمن من الحاجات الأساسية التي لا ينتبه أغلب الناس لأهميتها إلا عندما يتم تهديد استقرارها.
فقدت الثقة في أشخاص كنت أثق بهم قبل هذا.
وفقدت ما يمكنك أن تسميه بالطموح، أو الرغبة في تحقيق الذات.
التعافي من آثار هذا اليوم المأساوي استغرق فترة طويلة جدا.. وحتى الآن تعاودني مقتطفات من الذكريات التي تعيد الشعور بالحنق والغضب والكآبة.

الحمد لله على نعم مثل صفاء الذهن وراحة البال والنسيان. لن تقدرها حق قدرها إلا عندما تفقدها.
ومع كل هذا، فلم أفقد حب التعلم ولا الإيمان.. لم أفقد القدرة على التسامح ولا حب الآخرين، وإن صرت أفضل مراقبتهم من بعيد دون الاقتراب والمشاركة.
لم أفقد صراحتي مع النفس وكرهي لخداع الذات. ولم أفقد صفات مثل الأمل في الخير والتفاؤل بالقادم. إلا أنه تمر فترات صعبة كل عدة شهور أكون فيها أقرب للسوداوية بتوصيفها الطبي (Melancholy)، لكن سرعان ما تتلاشى سحابة الكآبة وتعود السماء صافية، إن جاز التشبيه.
-----
انتهيت من فصل آخر من كتابي الذي أعمل عليه: أساطير الأولين.
ما سبق وشرحته عطلني قليلا، لكن بالأمس أتممت تنسيقه، وخرج في 30 صفحة تقريبا.
الآن أعيد ترتيب المعلومات الخام التي تتناثر على سطح مكتبي، كي تكون كتابة الفصول اللاحقة أيسر. فمرحلة كتابة هذا الفصل زاد من صعوبتها تفرق ملاحظاتي عن الموضوع بين الكثير من الأوراق والقصاصات.. وأظن أن تنسيقها من جديد حسب موضوعها سيساعد كثيرا في عملية تأليف الفصول القادمة.
كلمة تأليف نفسها كلمة سليمة جدا هنا. فالتأليف هو عملية التأليف بين المتناثرات بحيث يكون المنتج النهائي شيئا جديدا، يزيد عن مجموع الأجزاء الداخلة فيه!
-----
انتهيت أيضا من قراءة الجزء الثاني من رواية دوستويفسكي (الإخوة كارامازوف). 500 صفحة مثلت جرعة أدبية رفعت كثيرا من معنوياتي. أسلوب المؤلف في تحليل النفس البشرية يشعرني بالسعادة دائما، ولم تخيب الرواية حسن ظني.
يمكن أن تصفني بأني من محبي كتابات فيودور دوستويفسكي منذ الصغر.. ولهذا ليس غريبا أن تكون قائمة روايات المفضلة تحوي أكثر من عمل له. رواية الجريمة والعقاب، ومذكرات من منزل الموتى، والآن الإخوة كارامازوف.
يمكن أن تتابع ملاحظاتي عن الرواية باستمرار على موقع جودريدز. اسمي هناك هو ibn salama
-----
إن كنت قد استمعت لحلقة (التدوين الصوتي والكتب المسموعة) التي سجلتها ضمن بودكاست شبكة السلامة الذي أقوم بنشره بين الحين والآخر، ثم أثار الموضوع اهتمامك، فأبشرك بأني وجدت قارئا ممتازا تخصص في قراءة الكتب الكلاسيكية الإنجليزية بصوته، وارتفع بالمسألة إلى مرتبة من الإتقان يصعب أن تجد لها نظيرا!
اسمه B J Harrison ، وهو الآن يعرض على موقعه BestAudioBooks تحميلا مجانيا لأول 5 ساعات من قراءته لرواية المونستون (حجر القمر، تأليف ويلكي كولينز).. وهي أيضا ضمن قائمة رواياتي المفضلة منذ قرأتها أول مرة في صغري.
للأسف لا يمكنني الاشتراك وشراء باقي الرواية منه، لأني لا أتعامل بكروت الائتمان على الإنترنت، مع أنه يقدمها لمتابعيه - الذين وصولوا لـ 20 ألف في الأسبوع! - بمبلغ زهيد نسبيا.. 5 دولارات.
لكن خمس ساعات مجانية من الملفات الصوتية متقنة القراءة تكفيني الآن على أية حال.
 -----
وما دمنا ذكرنا الروايات الكلاسيكية، فأنصحك برواية محببة إلى نفسي لكنها شبه مجهولة في العالم العربي.
الرواية مؤلفها ياباني، وكتبها وقت الحرب العالمية الثانية، وانتهى من نشرها قبل سقوط القنبلتين الذريتين الأمريكيتين على بلده. وهي تحفظ آخر مراحل الهدوء والشاعرية والحياة الاجتماعية السعيدة في اليابان قبل أن تتحول للبلد المزعج الصناعي المزدحم الذي نعرفه الآن.
فاليابان للأسف هي مثال واضح لغزو الثقافة الأمريكية لبلد ما، واحتلاله من الداخل، بعد أن هزمته عسكريا. وشباب اليابان الآن أراهم وصمة عار في تاريخ بلادهم، لدرجة أشعر معها بالاشمئزاز كلما رأيت تهافتهم على تقليد الغرب والانبهار بالممثلين والممثلات الأمريكان.
اليابان وكوريا الجنوبية تم أمركتهما حضاريا بحيث صار الناتج خليط مشوه من القديم والجديد.. وهذه الرواية تصف بين طياتها أولى مراحل التغير الذي تم.
المؤلف هو جوشيرو ناجازاكي، والرواية هي الأخوات ماكيوكا، وفي الترجمة العربية ربما تجد اسمها (الشقيقات الأربع).



الاثنين، 29 أبريل 2013

خير جليس في الزمان كتاب

مشكلة المتنبي الأساسية كانت في طموحه الزائد.
فشخصيته في حالة تطلع دائم إلى حلم كبير يتمنى تحقيقه، ويراه حقا له، وأنه مكانه الطبيعي الذي يجب أن يكون فيه. لم يكتف أبو الطيب المتنبي بما وصل إليه من مرتبة عليا في مجال تخصصه الذي برع فيه وفاق كل أقرانه المعاصرين له.. لم يكتف بمجرد كونه شاعر يتنافس الملوك والأمراء على إعطائه الهدايا والأموال كي يمدحهم في قصيدة من قصائده التي ستنتشر كالعادة في طول بلاد المسلمين وعرضها.
فالحقيقة التي يعرفها دارسو حياة المتنبي أن وضعه الاجتماعي كشاعر كان يمثل جزءا بسيطا فقط من طموحاته. رأى المتنبي نفسه أهلا لإدارة إمارة وحكمها، وأنه يتمتع بالذكاء والحكمة المطلوبين لمثل هذا المنصب.
لكن هذه (الثقة في النفس) ذاتها كانت السبب الأساسي الذي جعل الملوك يخشون طموحه، ويعملون دائما على الحد من آماله السياسية، محاولين إقناعه بالعدول عن طلب الإمارة والاكتفاء بالمال والشهرة ورضا أصحاب السلطة عنه!
وفي هذا المقال سأعرض تفصيلا لإحدى قصائده التي أجدها خير مثال للموضوع، وهي قصيدة (خير جليس في الزمان كتاب)، والتي أعتبرها من أصدق ما قاله المتنبي، وأقرب قصائد ديوانه إلى قلبي. ويمكن بدراستها التعرف على نفسية الشاعر في مرحلة حرجة من حياته.. حيث يبدأ في التخطيط لهروبه من مصر وحاكمها الأسود كافور الإخشيدي، بعد أن عجز - مرة أخرى - عن تحقيق طموحه السياسي.
لكن الموضوع يحتاج تمهيدا قصيرا لوضع القصيدة في سياقها المناسب، ولتتعرف على الجو العام الذي قيلت فيه.
-----
لو أردنا تلخيص وظيفة الشاعر الاجتماعية في العصر الذي عاش فيه المتنبي فلن نجد أفضل من وصف هذه الوظيفة بـ الإعلام.
فأي حاكم ناجح وقتها كان يفهم الأهمية السياسية لقصيدة ممتازة تمدح صفاته وتمجد أفعاله، وكيف أنها ستطير في البلدان وتتقاذفها الألسن وتنتشر - حسب قدرة الشاعر نفسه وشهرته وحجم جمهوره - بحيث يفوز هذا الحاكم الممدوح بقدر لا بأس به من الشهرة والهيبة وحسن السمعة.
وفي نفس الوقت فإن قصيدة ذم وهجاء يمكن أن تنقص كثيرا من هيبة الحاكم المقصود، وتكون وصمة عار على مر العصور، كما حدث فعلا مع من هجاهم المتنبي في ديوان شعره.

وهذا هو السر وراء تنافس النبلاء والأمراء على خطب ود الشعراء، وما جعلهم يحرصون على أن يزورهم الشاعر الشهير الفلاني أو العلاني في بلاطهم، ويعيش في قصورهم ليمدح أفعالهم، على أن يجزلوا له العطاء مقابل خدماته، ويغرقونه في الذهب والفضة والجواري والعبيد والملابس الغالية إلخ..
ولو رضي المتنبي بهذا الوضع لرضي الملوك والأمراء عنه وما عاملوه بحذر كما فعلوا.
لكن طموحه ومعرفته لقدراته جعلاه يقارن بين صفاته وصفات هذا الأمير أو ذاك ممن يمدحهم فيرى أنه هو الأولى بالجاه والمنصب منهم!
بل ربما كانت قصائد "المدح" يزيد عدد أبيات فخره بنفسه فيها على غرض القصيدة الأساسي!
وبطبيعة الحال كان الأمراء يفهمون نزعة الاعتداد بالنفس هذه، ويفهمون أن نظرة المتنبي لهم تختلف عن نظرة باقي الأتباع لهم.. فهو يراهم كأنداد وأنظار له.. وكان من الطبيعي بالتالي أن يختلف تعاملهم معه عن تعاملهم من باقي الأتباع، فنظروا له كمنافس وكخطر محتمل.. وعملوا جاهدين على المحافظة على علاقة متوازنة مع الشاعر بحيث يستفيد الطرفان.. الأمير ينال المدح، والشاعر ينال الحظوة والهبات المادية، لكن على أن يتنازل الطرفان أيضا عن بعض الأمور.. فالأمير يحتمل نبرة الشاعر المتعالية وثقته الزائدة بالنفس، والشاعر يتنازل عن حلم الإمارة وتطلعاته السياسية.
ولم تكن خشية الأمراء من المنافسين هي خشية غير مبررة.. فوقائع العصر امتلأت بالدسائس والاغتيالات السياسية والانقسامات، بحيث كان الملك أو الخليفة أحيانا لا يكاد يرسل أحدهم كأمير تابع له على إحدى الولايات حتى يصل له خبر انفصال هذا الأمير عن سلطته واستقلاله بالإمارة التي تم إرساله حاكما عليها!
فعندما تجد المتنبي يطلب ويلح في طلب إمارة يكون حاكما لها، وهو معروف بفخره الشديد بنفسه وبقدراته، فلا تعجب عندما تجد كافور الإخشيدي يرفض المسألة بلطف ولباقة.. فقد كان حاكما عاقلا.. يفهم طموحات الرجال وغواية المنصب وشهوة السلطة.

أغدق سيف الدولة وكافور على المتنبي الأموال لكن طموحه السياسي كان أكبر. رأى المتنبي أنه يُقابَل بالمماطلة وتسويف الوعود حتى ضاقت نفسه وتأكد ألا أمل له في أن يكون حاكما، وأنه سيظل دائما "الشاعر الشهير أبا الطيب المتنبي" فقط لا غير!
-----
فارق المتنبي بلاط سيف الدولة في حلب ثم بلاط كافور في مصر، لكن طبيعة الفراق اختلفت في الحالتين. فسيف الدولة الحمداني كان يمثل كل ما يصبو إليه المتنبي من صفات.. شهامة وقوة وكرم وسلطة وأخلاق عربية.. ولهذا عندما خرج المتنبي غاضبا من بلاط سيف الدولة لم يقطع الود تماما، بل بقيت محبة الأمير في نفسه. أما في حالة كافور حاكم مصر الزنجي فكان مدح المتنبي له على مضاضة أصلا، ولهذا عندما خرج غاضبا من بلاطه قطع خط الرجعة وكال له اللكمات المعنوية في صورة أبيات هجاء وسخرية وتهكم، نراها الآن فنتعجب من شدتها بل وعنصريتها!

خرج المتنبي من عند سيف الدولة - كما يصفه العلامة أبو فهر محمود شاكر في كتابه (المتنبي) - و "قد أصيب في آماله السياسية، وأصيب في هوى قلبه، وأصيب في محبة سيف الدولة، وما كان يُضمر له من الإخلاص والتوقير والود"
ومرت فترة انتقالية قصيرة بين خروجه من حلب من عند سيف الدولة الحمداني إلى أن وصل إلى مصر عند كافور الإخشيدي. وحتى بعد وصوله لمصر لم يبدأ الشاعر في مدح كافور تلقائيا، بل ظل فترة ممانعا متباطئا.. فحاول كافور استمالته بالعطايا والهدايا والأموال، إلى أن اضطر المتنبي إلى مدحه في شعره.
يقول شاكر: "لم يجد بدا من أن يحمل نفسه على مدح هذا الأسود الخصِيّ، عله يصيب عنده ما فاته عند غيره من الفحول البيض"
وهذه الجملة المحورية هي مفتاح القصيدة التي نتكلم عنها.
فمسألة السواد والبياض في أبيات القصيدة تشير من طرف خفي إلى الاختلاف بين سيف الدولة وكافور.. وكأن الشاعر يمدح كافور لكنه يهجوه في نفس الوقت عن طريق المعاني المستترة والألفاظ التي تخفي في باطنها ما يناقض ظاهرها!
ولا شك أنه كان يتحسر على اضطراره إلى تملق كافور بعد أن كان يمدح من هو في نظره أفضل منه ألف مرة، أي سيف الدولة الحمداني. وبالمقابلة بين اللون الأبيض والأسود استطاع المتنبي إخفاء بغضه لكافور وحنينه لسيف الدولة.. فكلمة "الأبيض" هي من أسماء السيف!
ووصل الأمر بالمتنبي أن افتتح قصيدته بمدح الشيب وذم الشباب لأن الشعر الأشيب أبيض أما الشعر في حال الشباب فيكون أسود!
ويقول شاكر في ص 361 وما بعدها من كتابه، تحت عنوان (مدائح كافور وما تتضمنه من هِجاء كافور)
"أن كافورا كان يعلم يقينا أن أبا الطيب لا يضمر له حبا ولا كرامة، بل كان يزدريه في نفسه"
ويستبعد أنه كان "يَخفى على كافور ما سخر أبو الطيب به في شعره من ذكر سواده والتعريض به، وجعله من مادة مدحه له" مع أن المتنبي "كان يطوي تحت ألفاظه معاني تهكمه بكافور"
-----
لكن من هو كافور هذا الذي اتخذه المتنبي هدفا لسخريته اللاذعة بحيث صار قارئ ديوانه يكاد يموت ضحكا من براعة الشاعر في اختراع معاني التهكم به؟
كافور كان عبدا زنجي الأصل، أسود البشرة، لكن براعته وحبه للتعلم جعلت سيده حاكم مصر الإخشيد يحرره ويقربه من السلطة إلى أن وصل كافور إلى منصب الوصي على العرش بعد موت الإخشيد، والحاكم الفعلي للبلاد تحت مسمى الوصاية على ابن الإخشيد.
كتب السير تعطيك تصورا مختلفا تماما لكافور عن الصورة التي تراها في ديوان المتنبي. فإن بحثت في كتب التاريخ تجد أن المصريين كانوا يحبون كافور كحاكم كريم سخي، حمى الدولة من أطماع الشيعة الفاطميين لأطول فترة ممكنة، وكانت الأمور في عهده مستقرة.. وكان يقرب العلماء والشيوخ والأدباء منه ويحيط نفسه بصالحي الدين.
ولقبه كان أبا المسك، واسمه من شجرة الكافور والتي ثمارها سوداء اللون تشبه التوت.
ومن المواضع السوداء في سيرته أنه متهم بتدبير قتل ابن الإخشيد كي لا ينازعه الملك، بعد محاولات كثيرة بإقناعه بترك المسألة والاكتفاء بما يصرف له من الأموال والعطايا تكفيه ليعيش في دعة ورفاهية.
وكافور كان مخصيا كعادة بعض تجار الرقيق مع العبيد، وهو أمر استغله المتنبي بالطبع في قصائد هجائه التي قالها بعد خروجه من مصر.
ويقول محمود شاكر أن المتنبي كان "يجتهد في أن يظفر من كافور بولاية من الولايات يقوم عليها، ليجرب نفسه بعد أن أخفق في عقد آماله على غيره"، وهذه القصيدة التي سنتحدث عنها كانت آخر مرة طلب فيها المتنبي هذا الأمر من كافور، وصرح فيها بما يريد، وبموقفه من مماطلة كافور في المسألة، ثم ترك مصر بعدها ولم ير كافور مرة أخرى بعد إلقائها أمامه.
-----
والقصيدة لا تنفصل عن الظروف التي قيلت فيها. فتلك الفترة كانت نهاية فترة المتنبي بمصر، وكان ضيق النفس، يتجاهل استدعاءات كافور إلى القصر، ولا يكاد يخفي بغضه له وللمكان وللوضع كله. وكان كافور يحذر من هروب المتنبي فجأة فجعل عليه العيون والجواسيس ليتابعوه. وخوفه من هروبه هو لعدة أسباب منها ضياع شاعر شهير مثله يتنافس الملوك في تقريبه منهم، وخوفا من تحوله بعد هروبه من المدح إلى الهجاء وتشويه السمعة، وهو ما حدث فعلا كما توقعه كافور.
ويمكن أن يقال أن كافور كان يحبس المتنبي فعلا في سجن ناعم، ويرفض حتى أن يتركه يخرج في زيارات خارج مصر، مما زاد من ضيق الشاعر وكرهه للمكوث بمصر.
وكل هذا ستجده في القصيدة.. حيث مزج المتنبي بعبقرية فنية بين مشاعره الخاصة وغرض القصيدة الرسمي والذي هو مدح الحاكم، وكانت النتيجة هي تلك القطعة الأدبية التي تبهر محبي اللغة والمعاني إلى اليوم.

قصيدة (خير جليس في الزمان كتاب) هي من بحر الطويل، قيلت عام 349 هجريا المقابل لـ 960 ميلاديا، وعدد أبياتها 43 ومطلعها (منى كن لي...) وقافيتها الباء المضمومة. والآن سندرس أبياتها ببعض التفصيل، لنرى فيها أصداء كل ما سبق.
-----

مُنًى كُنّ لي أنّ البَياضَ خِضابُ
فيَخفَى بتَبييضِ القُرونِ شَبَابُ
يقول المتنبي أنه في شبابه وصغره كان يتمنى ابيضاض خصل شعره، ليكتسب الحكمة والوقار اللذين يكونا مع كبر السن. وافتتاحية القصيدة عجيبة لمن لا يعرف سياقها التاريخي والمعنى الباطني المراد منها.. فهو يذم السواد ويقصد كافور، ويمدح البياض ويقصد سيف الدولة!

لَيَاليَ عندَ البِيضِ فَوْدايَ فِتْنَةٌ
وَفَخْرٌ وَذاكَ الفَخْرُ عنديَ عابُ
البيض هنا هي النساء، وهو يقول أنه كان يترفع عن سواد الشعر وقت الشباب، في الليالي والأيام التي كانت النساء تعجب فيها بسواد شعره فيصيبهن شبابه بالافتتان.. مع أنه كان لا يفتخر بهذا الأمر بل يعد الافتخار به عيبا.

فكَيْفَ أذُمُّ اليَوْمَ ما كنتُ أشتَهي
وَأدْعُو بِمَا أشْكُوهُ حينَ أُجَابُ
يحدث نفسه متسائلا كيف يعقل إذن أن يذم الشيب والكهولة اليوم بعد كبر سنه مع أنه كان يتمناهما في صغره. فهو يستبعد أن يكون من الذين يشتكون من تقدم العمر واشتعال الرأس شيبا.

جلا اللّوْنُ عن لوْنٍ هدى كلَّ مسلكٍ
كمَا انجابَ عن ضَوْءِ النّهارِ ضَبابُ
يقول أن السواد كان كسحابة الضباب التي انزاحت لتكشف تحتها ضوء النهار.. وهو تشبيه قوي وعجيب من الشاعر، حيث جعل سواد الشعر مكروها وكأنه الظلام وجعل الشيب محبوبا وكأنه سطوع النهار، على عكس المتعارف عليه من تفضيل الشعر الفاحم على الأشيب!
ومن الواضح أنه يقدح قريحته لنزع أي صفة جيدة عن اللون الأسود.. لون كافور!

وَفي الجسْمِ نَفسٌ لا تَشيبُ بشَيْبِهِ
وَلَوْ أنّ مَا في الوَجْهِ منهُ حِرَابُ
هنا يستدرك الشاعر ويقول للسامع: لا تظن لمجرد أني أشيب الشعر وكبير في السن أني ضعفت أو خارت قوتي!.. كلا. بل نفسي قوية لا تشيب ولا تضعف، حتى لو كان الشعر الأبيض هو كالحراب التي تطعن في الوجه لتضعف الجسد.

لهَا ظُفُرٌ إنْ كَلّ ظُفْرٌ أُعِدُّهُ
وَنَابٌ إذا لم يَبْقَ في الفَمِ نَابُ
وهذه النفس لها أظافر وأنياب معنوية ستقوم بدورها لحمايتي بعد أن تضعف الأظافر والأنياب الجسدية.

يُغَيِّرُ مني الدّهرُ ما شَاءَ غَيرَهَا
وَأبْلُغُ أقصَى العُمرِ وَهيَ كَعابُ
وهي نفس شابة فتية تشبه الفتاة التي بدأ ثديها في النضوج والنهود. ولا يؤثر في نفسي هذه تقدم العمر ولا ازدياد السنوات.

وَإنّي لنَجْمٌ تَهْتَدي صُحبَتي بِهِ
إذا حالَ مِنْ دونِ النّجومِ سَحَابُ
يبدأ المتنبي هنا بالفخر بنفسه، وأنه كالنجم على الأرض لهداية من يصاحبونه في أسفاره، وخاصة في الليالي التي تختفي فيها النجوم السماوية وراء حجاب من السحاب.

غَنيٌّ عَنِ الأوْطانِ لا يَستَخِفُّني
إلى بَلَدٍ سَافَرْتُ عنهُ إيَابُ
يقول: ومن صفاتي أيضا أني غير مرتبط ببلد معين، بل في أي مكان أوجد أكون مشهورا ومعروفا.. فأنا مستغنٍ عن أي بلد تركته، ولا حاجة لي بالعودة إليه. وهنا يشير المتنبي بصورة خفية إلى نيته القريبة في الرحيل عن مصر وترك كافور الإخشيدي كما ترك سيف الدولة الحمداني من قبل!

وَعَنْ ذَمَلانِ العِيسِ إنْ سامَحتْ بهِ
وَإلاّ فَفي أكْوَارِهِنّ عُقَابُ
وأنا مستغنٍ أيضا عن الإبل التي تحمل المسافرين وأحمالهم!.. إن سمحت لي بركوبها فأركب، أما إن لم تسمح فأنا كطائر العقاب أعبر الصحراء طائرا دون الحاجة لدابة تحملني.
ومما يستحق الذكر أن المتنبي خلال تخطيطه لرحلة هروبه السرية من مصر قام بتجهيز راحلته وزاده في الخفاء، بعيدا عن أعين المتلصصين وجواسيس كافور، ودفن أسلحته في موضع قريب بالصحراء كل يكون خروجه "طبيعيا" ودون أن يكتشف أحد غرضه بأن يرحل نهائيا. وقد نجحت خطته خاصة وأنه اختار التوقيت المناسب، يوم عيد الأضحى والناس منشغلة بالهدايا والطعام والزيارات إلخ.

وَأصْدَى فلا أُبْدي إلى الماءِ حاجَةً
وَللشّمسِ فوقَ اليَعمَلاتِ لُعابُ
ومن شدة تحكمي في حاجاتي أني أعطش فلا يظهر علي أي أثر للعطش، حتى والشمس ترسل أشعتها المتصلة على الإبل التي نركبها للسفر، وكأن الأشعة لعاب يسيل من الشمس.

وَللسرّ مني مَوْضِعٌ لا يَنَالُهُ
نَديمٌ وَلا يُفْضِي إلَيْهِ شَرَابُ
ومن صفاتي الشخصية أيضا أني كتوم للأسرار، لا يستطيع أن يستخرجها مني صديق ولا حتى وقت شرب الخمر، حين تضعف العقول وتنطلق الألسن دون تقييد.

وَللخَوْدِ منّي ساعَةٌ ثمّ بَيْنَنَا
فَلاةٌ إلى غَيرِ اللّقَاءِ تُجَابُ
أما بالنسبة للنساء، فأنا لست كهؤلاء الذين يتعلقون بهن أكثر من اللازم.. بل أكتفي بوقت قصير معهن ثم أرحل دون التفكير في العودة مرة أخرى للقاء.

وَمَا العِشْقُ إلاّ غِرّةٌ وَطَمَاعَةٌ
يُعَرّضُ قَلْبٌ نَفْسَهُ فَيُصَابُ
وما مسألة العشق والحب هذه إلا خداع من المرء لنفسه.. فمن يعرّض نفسه لسهام الحب فسيصاب بها حتما.

وَغَيرُ فُؤادي للغَوَاني رَمِيّةٌ
وَغَيرُ بَنَاني للزّجَاجِ رِكَابُ
أما أنا فقلبي ليس فريسة للحسناوات، وأصابعي ليست مطية تركبها زجاجات الخمر!
وقيل في رواية أخرى للبيت (للرخاخ)، أي أني لا أميل إلى تضييع الوقت في ألعاب الشطرنج كما يفعل البعض.. والرخ هو القلعة أو الطابية من أحجار الشطرنج.

تَرَكْنَا لأطْرَافِ القَنَا كُلَّ شَهْوَةٍ
فَلَيْسَ لَنَا إلاّ بهِنّ لِعَابُ
فاهتمامي الحقيقي ليس بالنساء وإدمان الشراب، بل بالرماح والقتال. فهذا هو اللعب الحقيقي الذي أميل إليه.

نُصَرّفُهُ للطّعْنِ فَوْقَ حَوَادِرٍ
قَدِ انْقَصَفَتْ فيهِنّ منهُ كِعَابُ
وهوايتي هي الحرب والطعن بالرماح وأنا أمتطي الخيول القوية التي انغرست في أجسادها الرماح المتكسرة للأعداء.

أعَزُّ مَكانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سابحٍ
وَخَيرُ جَليسٍ في الزّمانِ كِتابُ
وهنا يأتي المتنبي بأحد أبيات الحكمة التي اشتهر بها. فأفضل مكان في الدنيا عنده هو ظهر الحصان السريع المنطلق، وأفضل صديق حقيقي ليس بشريا بل ورقيا!

وَبَحْرُ أبي المِسْكِ الخِضَمُّ الذي لَهُ
عَلى كُلّ بَحْرٍ زَخْرَةٌ وَعُبابُ
وأخيرا بعد 18 بيتا من الفخر بنفسه، يبدأ المتنبي في غرض القصيدة الأساسي وهو مدح كافور (أبي المسك) الإخشيدي!.. ويشبهه بالبحر الواسع كثير الماء عالي الأمواج الذي يفوق كل البحور الأخرى.

تَجَاوَزَ قَدْرَ المَدْحِ حتى كأنّهُ
بأحْسَنِ مَا يُثْنى عَلَيْهِ يُعَابُ
وهنا يأتي المتنبي بإحدى مبالغاته المعتادة في المعاني. فكافور صفاته تفوق أي مدح، حتى أن من يحاول مدحه فهو في الواقع سيكون مقللا من شأنه!

وَغالَبَهُ الأعْداءُ ثُمّ عَنَوْا لَهُ
كمَا غَالَبَتْ بيضَ السّيوفِ رِقابُ
يقول المتنبي: ومن صفات كافور البطولية أن أعداءه حاولوا الانتصار عليه ثم خضعوا له ولسلطانه عليهم، وكأنهم الرقاب تحاول ضرب السيوف فيكون مصيرها لا محالة القطع!.. وهي صورة جمالية فائقة الجودة في رأيي.
ومن هذا البيت يمكن أن تلاحظ ارتباط السيوف باللون الأبيض، وبالتالي مصدر ربط المتنبي بين الشعر الأبيض واسم سيف الدولة الحمداني!

وَأكْثرُ مَا تَلْقَى أبَا المِسْكِ بِذْلَةً
إذا لم تَصُنْ إلاّ الحَديدَ ثِيَابُ
يقول: ومن شجاعة كافور أيضا أنه في الحرب يكون عاري الصدر، في حين أن المقاتلين اعتادوا على لبس الدروع الحديدية تحت الثياب بحيث تخفيها عن عيون العدو.

وَأوْسَعُ ما تَلقاهُ صَدْراً وَخَلْفَهُ
رِمَاءٌ وَطَعْنٌ وَالأمَامَ ضِرَابُ
ويكون مقتحما مفتوح الصدر في معمعة المعركة، حين يحيط به الأعداء من الأمام والخلف.

وَأنْفَذُ ما تَلْقَاهُ حُكْماً إذا قَضَى
قَضَاءً مُلُوكُ الأرْضِ مِنه غِضَابُ
ومن عظم سلطته وقوة سلطانه أن أكثر أوامره تنفيذا هي تلك الأوامر التي يغضب منها الملوك، لكن لا يقدرون على عصيان أمره.

يَقُودُ إلَيْهِ طاعَةَ النّاسِ فَضْلُهُ
وَلَوْ لم يَقُدْهَا نَائِلٌ وَعِقَابُ
والناس منقادة له لأسباب ثلاثة.. فالبعض يطمع في كرمه وعطاياه والبعض يخاف قوته وعقابه، لكن حتى لو لم يكن هذا أو ذاك فالجميع يطيعونه لفضله ولشخصه دون رغبة أو رهبة.

أيَا أسَداً في جِسْمِهِ رُوحُ ضَيغَمٍ
وَكَمْ أُسُدٍ أرْوَاحُهُنّ كِلابُ
يقول المتنبي مادحا كافور أنه أسد حقيقي، في حين أن الكثير من الملوك الآخرين هم أشباه ملوك، وظاهرهم كالأسود لكن حقيقتهم كالكلاب.

وَيَا آخِذاً من دَهْرِهِ حَقَّ نَفْسِهِ
وَمِثْلُكَ يُعْطَى حَقَّهُ وَيُهابُ
وأنت يا كافور تأخذ حقك كاملا غير منقوص، ولم ينقص شيء من نصيبك من الدنيا، وكأن القدر يخشاك ويهابك!.. وهي من المبالغات السيئة عند المتنبي، لكنه يوردها كتمهيد وتوطئة لطلبه من كافور تنفيذ ما وعده إياه من توليه على إمارة يكون حاكما عليها.

لَنَا عِنْدَ هذا الدّهْرِ حَقٌّ يَلُطّهُ
وَقَدْ قَلّ إعْتابٌ وَطَالَ عِتَابُ
بعد أن فخر بنفسه ومدح كافور يأتي المتنبي للغرض الثالث من أغراض قصيدته.. السؤال والطلب.
يقول أن الدهر يماطل في إعطائي حقي، ويحاول ترضيتي بالقليل، وأنا عاتبته طويلا على هذا التأخير!.. طبعا المقصود هنا هو أن يفهم كافور أن المتنبي يستعجله للوفاء بوعده السابق بجعله أميرا.

وَقَد تُحدِثُ الأيّامُ عِندَكَ شيمَةً
وَتَنْعَمِرُ الأوْقاتُ وَهيَ يَبَابُ
وهنا يعود المتنبي للتملق، فيقول أن الأيام - على غير عادتها - تكون كريمة بقربك، فيتحول الفقر إلى غنى، ويتحول القفر إلى معمور.

وَلا مُلْكَ إلاّ أنتَ وَالمُلْكُ فَضْلَةٌ
كأنّكَ سَيفٌ فيهِ وَهْوَ قِرَابُ
وأنت يا كافور الملك الحقيقي، وما يحيط بك من مظاهر العظمة هي كماليات لست محتاجا إليها لتصير عظيما.. فهي كالجراب الذي يحيط بالسيف.

أرَى لي بقُرْبي منكَ عَيْناً قَريرَةً
وَإنْ كانَ قُرْباً بالبِعَادِ يُشَابُ
وأنا سعيد بالطبع بقربي منك (!!) لكن سعادتي يشوبها شيء من الحزن لأني بعيد عن تحقيق مطلبي. ويمكن أن نفهم البيت أيضا كإشارة لحنين المتنبي لسيف الدولة وصحبته.

وَهَل نافِعي أنْ تُرْفَعَ الحُجبُ بَيْنَنا
وَدونَ الذي أمّلْتُ مِنْكَ حِجابُ
فما فائدة أنك تفتح لي أبواب قصرك وتستدعيني لقربك في الوقت الذي تمنعني فيه من مرادي وتحجب عني هدفي وغرضي!

أُقِلُّ سَلامي حُبَّ ما خَفّ عَنكُمُ
وَأسكُتُ كَيمَا لا يَكونَ جَوَابُ
وهذا البيت يقوله المتنبي كتبرير لتجاهله استدعاءات كافور المتكررة له. فقد كان في الفترة الأخيرة قد فقد الأمل فيه وقلل كثيرا من زيارته في قصره وكاد لا يراه إلا في المناسبات، وهو مما زاد من تأكد كافور من غرور وتكبر المتنبي.
يقول أني أقل من سلامي عليك تخفيفا عليك وكي لا أثقل عليك بواجب رد السلام!

وَفي النّفسِ حاجاتٌ وَفيكَ فَطَانَةٌ
سُكُوتي بَيَانٌ عِنْدَها وَخِطابُ
وهذا البيت تصريح واضح من المتنبي لكافور. وكأنه يقول له هل إلى الآن لم تفهم؟!.. أنا عندي حاجة معينة وأنت تفهمها جيدا وترفض تلبيتها، فسكوتي وإقلالي الزيارة هو لتوصيل موقفي وإظهار غضبي من مماطلتك لي.

وَمَا أنَا بالباغي على الحُبّ رِشْوَةً
ضَعِيفُ هَوًى يُبْغَى عَلَيْهِ ثَوَابُ
لكن لا تظن طبعا أني أجعل تلبية طلبي هو مقابل لحبي لك (!!) مثل هؤلاء الذين ينتظرون منك الأعطيات والهدايا والمنح.

وَمَا شِئْتُ إلاّ أنْ أدُلّ عَوَاذِلي
عَلى أنّ رَأيي في هَوَاكَ صَوَابُ
فكل هدفي هو أن أثبت للذين لاموني في السابق أني كنت على حق عندما جئت إليك في مصر، وأنك فعلا كريم تعطي من سألك.

وَأُعْلِمَ قَوْماً خَالَفُوني فشَرّقُوا
وَغَرّبْتُ أنّي قَدْ ظَفِرْتُ وَخَابُوا
وأن أثبت لإخواني الذين خرجوا معي من عند سيف الدولة أنهم أخطأوا عندما لم يأتوا إليك هنا مثلي!.. واضح أن المتنبي يستخدم آخر حيله التملقية لمحاولة إقناع كافور بإعطائه ما يرغب.
وهذا البيت إشارة إلى اثنين كانا سافرا مع المتنبي من حلب من عند سيف الدولة الحمداني لكن تركا الشام وذهبا شرقا إلى العراق في حين أن المتنبي ذهب غربا إلى مصر.

جَرَى الخُلْفُ إلاّ فيكَ أنّكَ وَاحدٌ          
وَأنّكَ لَيْثٌ وَالمُلُوكُ ذِئَابُ
وأنت يا كافور لا خلاف عليك، ولا ريب في عظم قدرك. فأنت كالأسد في حين أن الملوك الآخرين كالذئاب، أقل قيمة وأقل مهابة.

وَأنّكَ إنْ قُويِسْتَ صَحّفَ قارِىءٌ
ذِئَاباً وَلم يُخطىءْ فَقالَ ذُبَابُ
وهذه المقارنة السابقة والمقايسة تصح أيضا إن أخطأ القارئ فقرأ كلمة ذئاب على أنها ذباب. فالملوك الآخرون حقيرون كالذباب إن قورنوا بك.
ولاحظ أن اللغة العربية كانت تكتب لمدة طويلة دون نقط على الحروف.. بل أن العرب اخترعوا علامات التشكيل قبل تنقيط الحروف أصلا. وكان الداعي لـ "إعجام" الحروف بتنقيطها وتشكيلها هو ضعف اللغة العربية عند المسلمين الجدد غير العرب، وخاف العلماء ألا يفهم هؤلاء المصحف إن قرأوه مكتوبا دون نقاط فوق الحروف. فكلمتا (ذئاب) و (ذباب) كان لهما نفس الرسم في الكتابة، وعلامة الهمزة على الياء (ئـ) هي إضافة متأخرة أخذها علماء اللغة من رسم حرف العين (عـ).

وَإنّ مَديحَ النّاسِ حَقٌّ وَبَاطِلٌ
وَمَدْحُكَ حَقٌّ لَيسَ فيهِ كِذابُ
يقول أن المد يكون أحيانا بالصدق وأحيانا بالكذب والمبالغة، لكن مدحي لك صادق لا كذب فيه.

إذا نِلْتُ مِنكَ الوُدّ فالمَالُ هَيّنٌ
وَكُلُّ الذي فَوْقَ التّرَابِ تُرَابُ
يقول المتنبي بعد كل هذا الإلحاح في الطلب، أن مجرد رضاك عني يا كافور يكفيني فوق أي مال!!، وكل الأشياء والأشخاص لا رغبة لي فيها، فهم تراب زائل.

وَمَا كُنْتُ لَوْلا أنتَ إلاّ مُهاجِراً
لَهُ كُلَّ يَوْمٍ بَلْدَةٌ وَصِحَابُ
وهذا أيضا من الأبيات التعريضية التي تحتمل معنيين. فالمعنى الظاهر أنك يا كافور سبب بقائي الوحيد هنا، وأن حبي لك هو دافعي للمكوث بمصر.. أما المعنى الباطن فهو أنك يا كافور تحبسني عن الخروج من مصر والرحيل عنها وترفض مغادرتي للبلاد خوفا من هجائي لك فيما بعد!.. ولولاك لكنت حرا طليقا أسافر كل يوم من بلدة إلى أخرى.

وَلَكِنّكَ الدّنْيَا إليّ حَبيبَةً
فَمَا عَنْكَ لي إلاّ إلَيْكَ ذَهَابُ
ولكنك الدنيا كلها بالنسبة لي.. فأين سأذهب إن بعدت عنك؟
وكأن المتنبي يقول في حسرة: وأين المفر؟!
-----
وبهذا نأتي لنهاية القصيدة، وقد حاولت الاختصار قدر الإمكان دون الإخلال بالمعنى، إلا أنه يمكنك الرجوع للشروح المستفيضة لديوان المتنبي إن أردت الاستزادة.