الأربعاء، 5 ديسمبر 2012

شر غائب ينتظر - قصة قصيرة


أعزائي..
مر عليّ في محبسي خاطر حثني على أن أكتب إليكم لأول مرة..
أظنه كان بالأمس.. أو ربما قبل الأمس.. فأيامي يشبه أحدها الآخر.

ها أنا أُملي كلماتي هذه من جزيرتي.. تدونها أمامي "جـ.." رفيقة محبسي الوفية.
فكيف كان لي أن أسطر رسالتي بنفسي وأنا مقيد بهذه الأغلال، لا تفارقني لحظة من ليل أو نهار؟!
تمنيتُ أن تكون أولى رسائلي إليكم أكثر حميمية.. مكتوبةً بخط يدي مباشرة، لكن حال بيني وبين تحقيق رغبتي ما لا يَخفى عليكم من صعوبة موقفي وضيق أمري. فلا تظنوا أن وجود واسطة بيننا هو دليل ضعف محبتي إياكم أو قلة تقديري واعتزازي بما حققتموه حتى اليوم..
وحتى لا أطيل عليكم، أو تمل مني مدوِّنة كلماتي، فأنا ألخص لكم ما أريد أن أقول أعظم قدر من التلخيص، وأوجز فحوى الخاطر الذي زار فكري بالأمس أبلغ إيجاز ممكن.. وإن كان أمرا ليس باليسير على نفسي؛ لأن الحال دائما فيما يخص الأفكار أنها تكون ملائمة في القدر لقدر صاحبها، وتبعا لهذا المنطق فلا عجب أن أفكاري دائما من النوع العظيم.. العملاق!

[ يبدو أن مزحة سيدي الصغيرة طابت لنفسه جدا وأعجبته، إذ يكاد صدى ضحكاته الآن يصم آذاني!.. وظني أن لو لم يكن المكان الذي نحن فيه راسخا لانهار فوق رأسينا.    - جـ.. ]

على أية حال، دعوني لا أنسى ما وعدتكم به من أمر الاختصار، وإلا أسهبت في رسالتي الأولى، فأنفركم من متابعة ما قد يكون لها من أخوات مستقبليات.

فالفكرة والخاطرة التي أنا بصددها تدور حول معنى لمع فجأة في بالي كبرق خاطف، أو كما قد يغيب الأمر البديهي عنك طوال اليوم ثم ما أن تضع رأسك ليلا على وسادتك حتى يقفز من ثنايا الذاكرة إلى الواجهة بلا مقدمات.
لقد تذكرت فجأة أني لم أشكركم أبدا على كل ما قدمتموه من أجلي!!

كم هو عجيب أن يغيب عني أمر كهذا طوال هذه القرون!
بل ولم تسمعوا مني - أنتم ولا آباؤكم - جملة تشجيع أو مدح.. حتى بعد كل ما فعلتم من أمور عظيمة الشأن وفائقة الأهمية لا يمكن إنكار دورها في التمهيد لخروجي المرتقب من محبسي، وظهوري لكم بعد طول غياب!

عجيب فعلا وغريب أن يتوه شأن كهذا عن ذهني، وأنا من أنا!
وإن كان انعزالي الاضطراري عن عالمكم يشفع لي بعض الشيء.

واستدراكا لهذه الهفوة، فها أنا أبعث إليكم بشكر لا شك أن طال ترقبكم له، وتلهفكم عليه.. فأن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي إطلاقا، أليس كذلك؟

ولأطيب خاطركم أبلغكم أن لكل واحد منكم منزلة خاصة في قلبي.. وأبشركم أن أفعالكم تصلني أخبارها كل فترة.. يحملها لي من الرحالة من يقذف به البحر ناحية جزيرتي الصغيرة.. فأكون شغوفا لمعرفة آخر ما وصل إليه حالكم، وكيف تعالجون صروف الدهر وتقلبات الزمن.
وإن كان الأمد قد طال منذ حط أحدهم على شاطئ موطني آخر مرة، وأبلغني بما وصلتم إليه من عجائب خرافية وطرائف لم تخطر على بال أسلافكم إلا في الأحلام!
أذكر أنه وصف لي أحداثا شغلتني لأيام.. راحلات تطير في الهواء وتصطدم بالأبراج العالية.. دولا سقطت ما كنت أظن أن تسقط، وأخرى وُلدت كنت أشك أن تولد.. وملاحم عظيمة ومقاتل كبرى.. وأسلحة حرب أشبه بالسحر تقذف قذائفها من قارة إلى أخرى!!

وكم أسعدتني مقالته، وأطربتني دلالة الأحداث!

فإن كانت تعني أي شيء على الإطلاق فإنما تعني قرب انطلاقي من أغلالي التي طال تكبيلها لي، ونهاية مكثي هنا، لأخرج أخيرا آخذا مكاني الطبيعي، ومحققا ما قيل لكم قديما أني سأحققه لا محالة.
فكلما سفكتم من الدماء المزيد انكسرت حلقة من حلقات سلاسل أسري..
وها أنا أقول لكم، أعزائي، استمروا في مجونكم، وانغماسكم في متعكم، ولا تسمعوا لمن يحاول خداعكم بوعود وهمية ستأتيكم في "حياة أخرى"..فأمثال هؤلاء هم أعداء الراحة والحرية.. فاحذروهم، وامسحوا دجلهم هذا من قلوبكم!
فالشرع الوحيد في هذه الحياة هو قانون "افعل ما تشاء".. إلى أن يحين زمن حكمي، فتصير مشيئتي وحدي هي النافذة على الجميع، كأمر طبيعي كما تعلمون.

أعزائي.. أعرف أن غيبتي طالت عليكم، وأن الشوق بلا شك يمزق قلوبكم..
لكن لكل أمر آن. ولكل حدث زمن معين لا يتعداه قيد أنملة. والخلاص قد اقترب على أية حال، فاصبروا.
وبهذا أختم رسالتي إليكم، إلى أن يحين الحين.

المنتظَر،..
- الجزيرة -


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق