لعبة عادلة
فيليب ك. ديك
Philip K Dick - Fair Game
ترجمتها للعربية: روح حائرة
تدقيق لغوي: سلامة المصري
جلس البروفيسور (أنتوني دوجلاس) بارتياح على مقعده الجلدي الأحمر الوثير وتنهد تنهيدة طويلة أثناء نزعه لحذائه ملقيًا به في الركن بعيدا وسط همهمات كثيرة، ثم طوى ذراعيه على صدره العريض واستلقى إلى الخلف مغمضًا عينيه.
" متعب ؟ "
سألته زوجته لورا وهي تستدير من أمام موقد المطبخ، والعطف بادٍ في عينيها الداكنة .
"أنتِ محقة تماما ."
ألقى دوجلاس نظرة سريعة على الجريدة المسائية بالقرب منه على الأريكة ولكن لم يكن بها شيء يستحق، تفقد جيوب معطفه بحثًا عن سجائره وأشعل إحداها على مهل..
" نعم أنا متعب بحق. نحن بصدد البدء في سلسلة بحثية جديدة تماما، وقد وصل اليوم من واشنطن مجموعة من الشباب "اللامع"، بحافظاتهم الورقية و المساطر الحاسبة."
"ليس ـــــ "
"أوه، لازلت في موقع المسؤولية،لا قدّر الله العكس!" قالها بروفيسور دوجلاس وهو يبتسم ابتسامةً عريضةً.. تصاعد الدخان الرمادي الشاحب من حوله وأضاف : " تلزمهم بضع سنوات أخرى قبل أن يتخطوني، سيكون عليهم أن يشحذوا مساطرهم الحاسبة أكثر قليلا .. "
ابتسمت زوجته وواصلت إعداد وجبة العشاء. ربما كان الجو العام للبلدة الصغيرة في كولورادو ؛ حيث قمم الجبال الثابتة والساكنة تحيط بهم، والهواء البارد الرقيق، كذلك المواطنون الهادئون، هو السبب في جعل زوجها يبدو غير منزعج على الإطلاق من التوترات والشكوك التي تمثّل ضغطًا كبيرًا على الأعضاء الآخرين في مهنته، ففي هذه الأيام قام العديد من الوافدين الجريئين باحتلال متزايد لمناصب الفيزياء النووية مما جعل القدامى يترنحون في مناصبهم متعرضين لخطر داهم، حيث تم غزو كل كلية و كل قسم ومعمل فيزيائي بالشباب البارع، حتى هنا في كلية (بريانت) النائية.
لكن حتى لو شعر أنتوني بالقلق فإنه لم يكن أبدًا ليُظهر هذا، هاهو مسترخ في سعادة على مقعده الوثير مغمضًا عينيه وابتسامة هانئة تعلو وجهه، قد كان متعبًا ولكنه يحظى بسلام وهدوء بال.. تنهدّ مجدّدًا لكن تلك المرة بسبب السعادة أكثر من الإرهاق وغمغم في تكاسل :
" حقاً ربما أنا كبير في السن بدرجة كافية لأن أصبح أبا لهم، ولكنني متقدم عنهم بعدة قفزات، فأنا بالطبع أعرف أمور عملي أفضل وخيوطه الخفيـ.. "
" و(حل وعقد) هذه الخيوط !!"
" نعم، وهذا أيضًا، على أية حال أعتقد أنني سأنتهي من السلسلة البحثية الجديدة التي نقوم بها على أتم ..... "
تلاشى صوته فجأة مما جعل لورا تسأله :
" ما الأمر ؟ "
نهض دوجلاس قليلا من مقعده و تحول وجهه فجأة للون الأبيض وهو يحدّق في رعب وفمه ينغلق و ينفتح بينما يقبض بشدة على ذراعي المقعد. خلف النافذة كانت هناك عين كبيرة، عين ضخمة تحتل النافذة بأكملها و تحدق في الغرفة بإمعان متفحصةً إياه.
" يا إلهي ! " صرخ دوجلاس.
تراجعت العين وفي الخارج لم يكن هناك سوى كآبة المساء والتلال والأشجار المظلمة والشارع. غاص دوجلاس رويدًا في مقعده، فيما أخذت لورا تسأله بحدة :
" ماذا كان الأمر؟ ماذا رأيت؟ أكان هناك أحد ما في الخارج؟ "
فيليب ك. ديك
Philip K Dick - Fair Game
ترجمتها للعربية: روح حائرة
تدقيق لغوي: سلامة المصري
جلس البروفيسور (أنتوني دوجلاس) بارتياح على مقعده الجلدي الأحمر الوثير وتنهد تنهيدة طويلة أثناء نزعه لحذائه ملقيًا به في الركن بعيدا وسط همهمات كثيرة، ثم طوى ذراعيه على صدره العريض واستلقى إلى الخلف مغمضًا عينيه.
" متعب ؟ "
سألته زوجته لورا وهي تستدير من أمام موقد المطبخ، والعطف بادٍ في عينيها الداكنة .
"أنتِ محقة تماما ."
ألقى دوجلاس نظرة سريعة على الجريدة المسائية بالقرب منه على الأريكة ولكن لم يكن بها شيء يستحق، تفقد جيوب معطفه بحثًا عن سجائره وأشعل إحداها على مهل..
" نعم أنا متعب بحق. نحن بصدد البدء في سلسلة بحثية جديدة تماما، وقد وصل اليوم من واشنطن مجموعة من الشباب "اللامع"، بحافظاتهم الورقية و المساطر الحاسبة."
"ليس ـــــ "
"أوه، لازلت في موقع المسؤولية،لا قدّر الله العكس!" قالها بروفيسور دوجلاس وهو يبتسم ابتسامةً عريضةً.. تصاعد الدخان الرمادي الشاحب من حوله وأضاف : " تلزمهم بضع سنوات أخرى قبل أن يتخطوني، سيكون عليهم أن يشحذوا مساطرهم الحاسبة أكثر قليلا .. "
ابتسمت زوجته وواصلت إعداد وجبة العشاء. ربما كان الجو العام للبلدة الصغيرة في كولورادو ؛ حيث قمم الجبال الثابتة والساكنة تحيط بهم، والهواء البارد الرقيق، كذلك المواطنون الهادئون، هو السبب في جعل زوجها يبدو غير منزعج على الإطلاق من التوترات والشكوك التي تمثّل ضغطًا كبيرًا على الأعضاء الآخرين في مهنته، ففي هذه الأيام قام العديد من الوافدين الجريئين باحتلال متزايد لمناصب الفيزياء النووية مما جعل القدامى يترنحون في مناصبهم متعرضين لخطر داهم، حيث تم غزو كل كلية و كل قسم ومعمل فيزيائي بالشباب البارع، حتى هنا في كلية (بريانت) النائية.
لكن حتى لو شعر أنتوني بالقلق فإنه لم يكن أبدًا ليُظهر هذا، هاهو مسترخ في سعادة على مقعده الوثير مغمضًا عينيه وابتسامة هانئة تعلو وجهه، قد كان متعبًا ولكنه يحظى بسلام وهدوء بال.. تنهدّ مجدّدًا لكن تلك المرة بسبب السعادة أكثر من الإرهاق وغمغم في تكاسل :
" حقاً ربما أنا كبير في السن بدرجة كافية لأن أصبح أبا لهم، ولكنني متقدم عنهم بعدة قفزات، فأنا بالطبع أعرف أمور عملي أفضل وخيوطه الخفيـ.. "
" و(حل وعقد) هذه الخيوط !!"
" نعم، وهذا أيضًا، على أية حال أعتقد أنني سأنتهي من السلسلة البحثية الجديدة التي نقوم بها على أتم ..... "
تلاشى صوته فجأة مما جعل لورا تسأله :
" ما الأمر ؟ "
نهض دوجلاس قليلا من مقعده و تحول وجهه فجأة للون الأبيض وهو يحدّق في رعب وفمه ينغلق و ينفتح بينما يقبض بشدة على ذراعي المقعد. خلف النافذة كانت هناك عين كبيرة، عين ضخمة تحتل النافذة بأكملها و تحدق في الغرفة بإمعان متفحصةً إياه.
" يا إلهي ! " صرخ دوجلاس.
تراجعت العين وفي الخارج لم يكن هناك سوى كآبة المساء والتلال والأشجار المظلمة والشارع. غاص دوجلاس رويدًا في مقعده، فيما أخذت لورا تسأله بحدة :
" ماذا كان الأمر؟ ماذا رأيت؟ أكان هناك أحد ما في الخارج؟ "
***
أخذ دوجلاس يشبك أصابع يديه على نحو متكرر وشفتاه ترتعشان بشدة..
" إني أخبرك الحقيقة يا بيل، لقد رأيته بأم عيني، الأمر برمته كان حقيقيًا وإلا لم أكن لأحدّثك عنه.. أنت تعلم ذلك تماما، ألا تصدقني ؟ "
" هل رآه أحد غيرك ؟ هل رأته لورا ؟ "
سأله البروفيسور ويليام هاندرسون وهو يلوك طرف قلمه مفكرًا بعمق.. كان قد دفع بطبقه و بالفضيات إلى نهاية مائدة الطعام مفسحًا مكانًا ليضع مفكرته الخاصة أمامه.
" لا.. لورا كانت تدير ظهرها. "
" كم كان الوقت حينها؟ "
مسح دوجلاس جبينه بيد مرتعشة..
" منذ نصف ساعة، كنت عائدا لتوي إلى البيت في حوالي السادسة والنصف، قمت بخلع حذائي آخذًا الأمور ببساطة."
" تقول أنها كانت منفصلة، أي لم يكن هناك شيء آخر؟ العين فقط ؟ "
" نعم العين فقط، عين واحدة ضخمة تنظر إليّ في الداخل وتجمع كل تفاصيلي كما لو أنها..."
" كما لو أنها ماذا ؟ "
" كما لو أنها تنظر من خلال ميكروسكوب. "
ساد الصمت لوهلة، بعدها ارتفع صوت زوجة هاندرسون الصهباء متحدثة من الجانب الآخر للمائدة:
" لطالما كنت عالمًا تجريبيًّا متشدّدًا يا دوجلاس، ولم تصدّق من قبل أي هراء على الإطلاق ، لكن هذا .... من المؤسف حقًا أنّ أحدًا سواك لم ير ما رأيته. "
" بالطبع لم يره أحد غيري! "
" ماذا تعني ؟ "
" هذا الشيء اللعين كان ينظر " إليّ " بالتحديد، لقد كان " أنا " من يتفحصَه".. ارتفع صوت دوجلاس بشكل هستيري .. " باعتقادكِ كيف يكون شعوري عندما تتفحصني عين بحجم البيانو! .. يا إلهي لو لم أكن أحسن السيطرة على أعصابي لكان أصابني الجنون! "
تبادل هاندرسون و زوجته النظرات، كان هاندرسون رجلا وسيما بني الشعر و يصغر دوجلاس بعشر سنوات، أما زوجته "جين هاندرسون" المحاضرة المجتهدة في علم نفس الطفل فقد بدت رشيقة ومفعمة بالأنوثة في بلوزتها المصنوعة من النايلون و البنطال الذي ترتديه.
بيل : " ماذا تستنتجين من هذا يا جين؟ فهو أقرب لمجالك. "
دوجلاس بعنف : " بل هو ينتمي لمجالك أنت يا بيل، لا تحاول أن تحرّفه إلى ظاهرة مرَضيَّة، لقد جئت إليك لأنك رئيس قسم الأحياء." " هل تعتقد إذن أنه حيوان ضخم أو ما شابه ؟ "
" بالتأكيد هو حيوان. "
" ربما هي مزحة،" اقترحت جين " أو ربما لوحة دعائية لطبيب عيون كان يحملها أحدهم مارًّا بالنافذة. "
تمالك دوجلاس أعصابه بصعوبة :
" لقد كانت العين حيّة، نظرت إليّ وتأملتني ثم انسحبت كما لو كانت ابتعدت عن عدسة الميكروسكوب. أصابت دوجلاس قشعريرة ثم أضاف : " أخبرك لقد كانت تتفحصني! "
" أنت فقط ؟ "
" نعم لا أحد عداي. "
" يبدو أنك مقتنع بغرابة أنها كانت تنظر من أعلى إلى أسفل. "
" نعم إلى أسفل، إلى الأسفل إليّ، هذا صحيح." ارتسم تعبير غريب على وجه دوجلاس و رفع يديه مشيرًا إلى الأعلى :
" الأمر يبدو يا جين كما لو أنها كانت قد جاءت من هناك.. من فوق. "
بيل بتفكر : "ربما كان الإله."
لم يتفوّه دوجلاس ببنت شفة، فقط تحول وجهه إلى الأبيض الشاحب و اصطكت أسنانه..
جين: " هذا هراء، الإله هو فكرة رمزية نفسية لتعبِّر عن القوى اللا شعورية."
بيل : " هل كانت العين تنظر إليك نظرة اتهام و كأنك اقترفت ذنبًا ما ؟ "
" لا بل كانت تنظر إلي باهتمام بالغ ... نهض دوجلاس مضيفًا : " يتوجب علي العودة؛ لورا تعتقد أنني أمر بنوبة ما، بالطبع لم أخبرها فهي غير مهيّأة علميًّا ولن يمكنها تقبّل فكرة كتلك."
بيل: " في الواقع فكرة كهذه تقبّلها عسير نوعا ما بالنسبة لنا كذلك. "
توجه دوجلاس بعصبية نحو الباب و قال :
" ألا تستطيع أن تجد تفسيرًا ما ؟ شيء منقرض على سبيل المثال ربما لا يزال يحوم حول هذه الجبال؟ "
" ليس على حد علمي.. لو حدث وسمعتُ عن أي ـــــ"
جين : " لقد قلت أنه كان ينظر لأسفل وليس أنه يميل إلى أسفل حتى يستطيع النظر إليك، لذا فمن غير الممكن أن يكون حيوانا أو كائنا أرضيا".. بدا على جين التفكير العميق وهي تقول : " ربما نحن تحت المراقبة. "
دوجلاس ببؤس شديد : " ليس أنتم، " أنا " فقط . "
بيل : "بواسطة جنس غير بشري، أتعتقد ــــــ "
جين : " ربما هي عين من المريخ. "
فتح دوجلاس الباب الأمامي بحذر وأطل بالخارج، كان الليل حالك السواد والرياح الخفيفة تتحرك بين الأشجار وعلى طول الطريق العام.. ظهرت سيارة دوجلاس بصعوبة وسط الظلام كمربع أسود في خلفيته التلال.
دوجلاس : " إذا فكرت في أي شيء اتصل بي . "
جين : " تناول حبتيّ منوّم قبل أن تخلد إلى النوم، حاول تهدئة أعصابك."
وقف دوجلاس على عتبة البيت بالخارج و هز رأسه : " فكرة سديدة، شكرًا لكِ.. ربما أنا فقدت عقلي. رُحماك يا رب !.. حسنا أراكم لاحقا."
ثم نزل الدرج ممسكا الدرابزين بإحكام
" ليلة سعيدة!" صاح بيل وبعدها أُغلق الباب و انطفأت أنوار الممشى.. توجه دوجلاس بحذر ناحية سيارته، وسار في الظلام متلمسًا مقبض باب السيارة، خطوة .. خطوتان .. فكر في سخافة الأمر. رجل بالغ - في منتصف العمر تقريباً – وفي القرن العشرين !!
.. وجد دوجلاس باب السيارة، فتحه وانسلّ سريعًا إلى الداخل مغلقًا الباب خلفه، ثم أخذ يتمتم بصلوات شكر خافتة وهو يدير محرك السيارة و يشغل الأضواء الأمامية..
سخيف لأبعد حد ما يحدث له، عين ضخمة ؟!.. ربما هي حيلة من نوع ما، أخذ دوجلاس يقلب الأفكار في رأسه؛ هل هم الطلاب ؟ مهرجون ؟ شيوعيون ؟ أهي مؤامرة لجعله يفقد صوابه؟ إنه شخص مهم، ربما عالم الفيزياء النووية الأكثر أهمية في الدولة، وهذا المشروع الجديد قد ..
كان دوجلاس يقود السيارة على مهل في الطريق الهادئ و يشاهد الأشجار والشجيرات بينما تزداد سرعة السيارة..
في الغالب قد تكون مؤامرة شيوعية، بعض الطلاب من النادي اليساري قد كونوا مجموعة دراسية للمؤمنين بالماركسية، ربما أعدّوا ـــــــ ....
على وهج الأضواء الأمامية رأى دوجلاس شيئا يلمع على جانب الطريق، أمعن النظر فيه مذهولا، كانت كتلة مربعة الشكل وسط الأعشاب على جانب الطريق من حيث تبدأ الأشجار الكبيرة المظلمة.. كانت تلمع وتتلألأ.. أبطأ دوجلاس السيارة حتى كادت تقف..
كان هناك سبيكة ذهبية ترقد على حافة الطريق.
كان الأمر لا يصدّق، فتح البروفيسور دوجلاس نافذة السيارة ببطء وألقى نظرة إلى الخارج، هل ما رآه كان ذهبًا بالفعل ؟
ضحك بعصبية.. على الأرجح لا، إنه رأى الذهب بالتأكيد مرارًا من قبل، وهذا يبدو كالذهب، لكنه ربما كان رصاصا؛ سبيكة من الرصاص مطلية بالذهب..
لكن لماذا ؟
قد تكون مزحة أو خدعة؛ كأن يكون طلاب الكلية قد شاهدوا سيارته و هي في طريقها إلى منزل عائلة هاندرسون و علموا أنه على الأغلب سيعود سريعًا..
أم.. أم أنه بالفعل ذهب ؟ ربما سيارة مصفحة مرت على الطريق وانعطفت مسرعة مما جعل السبيكة تسقط خارجا و تقع على الأعشاب، إذا صحّ ذلك فهذا يعني أنه كانت هناك ثروة صغيرة ترقد في الظلام على حافة الطريق السريع، لكن امتلاك الذهب غير قانونيّ وكان سيتوجب عليه إعادته للحكومة.. ألا يستطيع أن يأخذ جزءًا بسيطا من الذهب لنفسه ؟ إنه لو قام بإعادة السبيكة الذهبية كان ليحصل بالتأكيد على مكافأة مجزية من نوع ما، ربما عدة آلاف من الدولارات.
باغت مخطط مجنون عقل دوجلاس؛ الحصول على السبيكة، ثم وضعها في صندوق وشحنها في طائرة إلى المكسيك خارج البلاد، (إيريك بارنز) يمتلك طائرة صغيرة وسوف يمكنه بسهولة أن يوصل السبيكة إلى المكسيك، بعدها يبيعها هو و يتقاعد ويعيش في رغد و رفاهية لبقية حياته.
زمجر البروفيسور دوجلاس بحنق شديد، لقد كان واجبه إعادة السبيكة والاتصال بإدارة سك العملة في "دنفر" أو قسم الشرطة ليخبرهم عنها.. غيّر دوجلاس اتجاه السيارة و رجع إلى الوراء حتى أصبح في محاذاة السبيكة المعدنية، أطفأ المحرك وغادر السيارة إلى الطريق المظلم، كان لديه عمل يقوم به، فهو كمواطن مخلص - ويعلم الله أنه مر بعشرات الاختبارات التي أثبتت مدى ولائه - على عاتقه الآن مهمة يتوجب القيام بها، انحنى دوجلاس إلى داخل السيارة وتفقد المصباح الكاشف فوق لوحة العدادات.. لو أن أحدهم فقد سبيكة ذهبية فالأمر أصبح الآن مسؤوليته...
" سبيكة ذهبية؟" مستحيل!..
غزته قشعريرة باردة ببطء كاد معها أن يتوقف قلبه، و في مؤخرة رأسه هتف صوت واضح و منطقي " من ذاك الذي يرحل و يخلّف وراءه سبيكة من الذهب؟ " ..
ثمة شيء ما يجري هنا، داهمه الخوف و تجمد في مكانه مذعورًا، لقد كان وحيدا تماما في ذلك الطريق المظلم المهجور ومن حوله الجبال الصامتة، إنه حقا موقع ممتاز إذا أرادوا اختطافه ـــــ أرادوا ؟ لكن من هم ؟
التفت سريعا حوله، في الأغلب هم يختفون خلف الأشجار في انتظار أن يعبر الطريق السريع ويترجّل من السيارة مبتعدًا صوب الشجيرات، ثم ينحني ليلتقط السبيكة وتكون ضربة واحدة سريعة وينتهي الأمر برمته.
اندفع دوجلاس سريعًا نحو سيارته، أدار المحرك ,ضغط الدواسة ورفع المكابح، اهتزت السيارة وانطلقت إلى الأمام، و بيديه المرتعشتين أمسك بثبات عجلة القيادة.. عليه الخروج من هنا والابتعاد قبل أن يتمكن منه هؤلاء الأشخاص أيا كانوا..
بينما العربة تنطلق مبتعدة ألقى نظرة أخيرة خلفه من النافذة المفتوحة، السبيكة لا تزال هناك تلمع وسط الأعشاب المظلمة على حافة الطريق، ولكن كان يكتنفها شيء من الغموض؛ هالة من الذبذبات المبهمة تكونت في الجو الملامس لها، ثم فجأة تلاشت السبيكة واختفت تماما بعد أن خبا وهجها و تحول إلى عتمة.
اشرأب دوجلاس بعنقه نحو السماء وشهق فزعا، شيء ما كان قد حجب النجوم؛ تكوين كبير صعقته ضخامته كان يتحرك مباشرة فوق رأسه.. دائرة بلا جسد تدب فيها الحياة. بالتحديد وجهٌ عملاق و عريض ينظر للأسفل و يبدو مثل قمر هائل الحجم يحجب كل شيء آخر.. ثبت الوجه فجأة مستهدفا دوجلاس عند البقعة التي قد تركها للتو، و بعدها تلاشى وغرق في الظلام كما حدث للسبيكة تماما..عادت النجوم ترصع السماء و بقي دوجلاس وحيدًا..
غاص دوجلاس في مقعده و أفلت عجلة القيادة فانحرفت السيارة بشدة، لكنه أمسك مقود السيارة في اللحظة الأخيرة.
لم يعد هنا شك حيال هذا الأمر، أحدهم يلاحقه محاولا الإمساك به، لكن هذه المرة لا يوجد شيوعيون أو مقلب أعده الطلاب أو حيوان ضخم أتى متسكعا من الماضي السحيق، أيا كان هذا الشيء و أيا كان هؤلاء فليست لهم علاقة على الإطلاق بكوكب الأرض، إنهم ينتمون إلى عالم آخر وقد غادروه في محاولة الإمساك به.. به ؟! ولكن لمَ ؟
" استمر"
قالها (بيت بيرج) بعد أن توقف دوجلاس عن الحديث.. كان بيرج يصغي باهتمام شديد..
دوجلاس: "هذا كل شيء ,"ثم التفت ناحية بيل هاندرسون قائلا ":لا تخبرني أنني قد فقدت عقلي، لقد رأيته بالفعل وكان ينظر إلي من أعلى، الوجه بأكمله هذه المرة وليست العين فقط."
جين هاندرسون : ":أتعتقد أن هذا هو الوجه الذي تنتمي إليه العين؟"
دوجلاس: " نعم، أنا أعرف هذا جيدا، فلدى الوجه نفس تعبير العين؛ يتفحصني. "
لورا بصوت خفيض متهدج " يجب أن نتصل بالشرطة، علينا أن نوقف هذا، إذا كان أحدهم في أثره ــــــــ "
" الشرطة لن تجدي نفعًا " قالها بيل وهو يروح جيئة وذهابا.
كان الوقت متأخرا بعد منتصف الليل، و كانت كل الأضواء في منزل دوجلاس مشتعلة.. في أحد الأركان جلس ميلتون إيريك رئيس قسم الرياضيات العجوز متكوما على نفسه, منتبهًا لكل ما يقال بينما وجهه المليء بالغضون خال من أي تعبير يذكر.. تحدث إيريك بهدوء نازعا غليونه من بين أسنانه الصفراء:
" بإمكاننا أن نفترض أنهم جنس لا ينتمي للأرض، فحجمهم وهيئتهم يشيران إلى أنهم غير أرضيين بكافة المقاييس."
قالت جين محتجة: " ولكن لا يمكنهم أن يظلوا عالقين هكذا في السماء ! لا يوجد شيء بالأعلى "!
إيريك: " ربما كانت هناك عوالم أخرى للمادة لا تتوافق أو تتشابه غالبا مع تركيبات عالمنا، ربما هو تواجد لا نهائي و متعدد لأنظمة كونية أخرى تقع على طول مستوى من الإحداثيات المتساوية غير القابلة للتفسير تماما عبر مصطلحاتنا العلمية الحديثة، وهو ناتج عن تجاور شاذ للمماسّات، نحن الآن على اتصال بهذا العالم."
بيل مفسّرًا "إيريك يعني أن هؤلاء الأشخاص الذين يلاحقون دوجلاس لا ينتمون لكوننا و أنهم قد جاؤوا من بُعد مختلف كلية "
همهم دوجلاس " لقد تموج الوجه.. كلا من الذهب والوجه تموجا ثم اختفيا."
إيريك " انسحبا ، وعاد الوجه إلى الكون الذي ينتمي إليه، لديهم مدخل إلى كوننا في أي ساعة شاءوا، قد يكون عبارة عن ثقب - إذا جاز القول - يستطيعون العبور من خلالها و العودة مجددا. "
جين " إنه أمر يدعو للأسف، إن حجمهم كبير جدا، فقط لو كانوا أصغر ــــ"
إيريك: " الحجم في صالحهم، إن الموقف عسير."
" كل هذا الجدل العلمي ! "صرخت لورا بعنف " نحن نجلس هنا نستنبط النظريات وفي هذه الأثناء هم يسعون خلفه ! "
بيل بغتة : " ربما هذا يفسر الآلهة "
" الآلهة ! "
أومأ بيل بالإيجاب : " ألا ترون ؟ في الماضي كانت هذه الكائنات تنظر إلى الكون الذي نعيش فيه عبر هذه الارتباطات الكونية ، وربما قد تكون هبطت إليه، لقد رأتهم الأقوام البدائية و عجزت عن تفسير ماهيتهم فاخترعوا عقائد حولهم وقاموا بعبادتهم. "
جين:"مثل جبل الأوليمب، بالإضافة طبعا إلى قمة جبل سيناء حيث قابل موسى ربه، نحن هنا عاليا في جبال الروكي؛ ربما الاتصال يحدث فقط في الأماكن المرتفعة كهذه الجبال. "
بيل : أيضا رهبان التبت يعيشون في المرتفعات الأكثر علوا في العالم، تلك المنطقة بأكملها هي الجزء الأقدم و الأكثر ارتفاعا من العالم، كذلك فقد أوحي بجميع الديانات السماوية في الجبال، و أوصلها الأشخاص الذين رأوا الله وحملوا رسالته. "
لورا " ما لا أستطيع فهمه هو السبب الذي يريدون دوجلاس من أجله، لم يلزمهم انتقائه ؟
ارتسمت على وجه بيل ملامح الجدية وهو يقول " أعتقد أن هذا واضح تماما. "
إيريك: "هل لك أن تفسّر ؟ "
بيل : "من هو دوجلاس ؟ إنه أفضل عالم فيزيائي في العالم تقريبا، حيث يعمل في مشاريع الانشطار النووي بالغة السرية بالإضافة إلى البحوث العلمية المتقدمة.. إن الحكومة تمول أي شيء تقوم به كلية بريانت فقط لأن دوجلاس هنا. "
" إذًا ؟"
" إنهم يريدونه من أجل قدراته ولمعرفته للأشياء، بسبب حجم علاقتهم بكوننا، إنهم يخضعون حياتنا البشرية لفحص دقيق كالذي نقوم به نحن في معامل الأحياء لزراعة البكتيريا الرئوية, لكن هذا لا يعني أنهم متفوقون حضاريا علينا"
هتف بيت بيرج "بالطبع!.. يريدون دوجلاس لأجل علمه. يريدون أن يسطوا عليه ويستخدموا عقله في مزارع "بكتيرية" خاصة بهم"
جين : طفيليات! لقد كانوا يعتمدون علينا دائما، ألا ترون معي هذا ؟ إن الأشخاص الذين اختفوا في الماضي قد تم اختطافهم بواسطة تلك المخلوقات، على الأرجح هم يعتبروننا حقل تجارب أو ما شابه، حيث يتم تطوير العلم والتقنيات بأساليب شنيعة من أجل منفعتهم الخاصة. "
حاول دوجلاس أن يتكلم ولكن عجزت الكلمات أن تخرج من فمه، كان يجلس متسمرًا في مقعده ورأسه تميل إلى جهة واحدة.. في الخارج, من بين الظلمة كان أحدهم ينادي اسمه.. نهض دوجلاس و اتجه نحو الباب بينما يحدق به الجميع في دهشة ..
بيل : ما الأمر يا دوجلاس ؟ "
أمسكت لورا بذراعه قائلة :
" ما الخطب ؟ هل أنت على ما يرام ؟ فلتقل شيئا ! "
تخلص البروفيسور دوجلاس من يدها و فتح الباب الأمامي و خرج إلى الممشى، كان ضوء القمر الخافت يغمر كل شيء..
" بروفيسور دوجلاس ! "
جاءه الصوت مجددا، عذبا ونقيا.. صوت فتاة، وفي أسفل درجات الممشى وقفت فتاة شقراء تبدو في العشرين من عمرها.. رسم ضوء القمر حدود جسدها, كانت ترتدي تنورة بها مربعات و سترة باهتة من الموهير، وفوق عنقها تلف وشاحا حريريا.. لوّحت الفتاة بلهفة و بوجه متضرع :
" بروفيسور هل لي بدقيقة من وقتك ؟ شيء مريع قد حدث لـ ..."
أخذ صوتها بالتلاشي بينما تتحرك بعيدا عن المنزل نحو الظلام..
صاح دوجلاس "ما الأمر ؟ "
كان يسمع صوتها بصعوبة وهي لا تزال تبتعد.. مزقت الحيرة دوجلاس، تردد لوهلة ثم أسرع بالنزول على السلالم خلف الفتاة التي ابتعدت عنه أكثر و هي تحرك يديها في عصبية وتعض على شفاهها الممتلئة بقسوة وأسى، كان صدرها يعلو و يهبط من الخوف الشديد وتحت ضوء القمر ظهر بوضوح وجهها المضطرب.
" ماذا هناك ؟ ما الأمر ؟ " صاح دوجلاس بصوت عال و أسرع غاضبا خلفها .. " أسألك بالله أن تتوقفي ! "
استمرت الفتاة في الابتعاد جاذبةً دوجلاس خلفها مسافة أكبر بعيدا عن المنزل إلى الامتداد الواسع الأخضر من الحشائش وبداية ساحة حرم الجامعة ، شعر دوجلاس بالضيق الشديد، اللعنة على الفتاة، لم لا يمكنها انتظاره ؟
" انتظري قليلا ! " قالها وهو ينطلق فوق الحشائش وسط الظلام و يلهث من التعب.. " من تكوني ؟ .. بحق الجحيم ماذا تريديــ ـــــ "
بغتة ظهر وميض قوي يعمي الأبصار وضربت صاعقة الأرض خلف دوجلاس على بعد خطوات محدثة حفرة انبعث منها الدخان، توقف دوجلاس مذهولا في حين مرت صاعقة أخرى ولكن هذه المرة فوقه مباشرة، دفعته الموجة الساخنة إلى الوراء فترنح و كاد يسقط.. توقفت الفتاة فجأة صامتة وبلا حراك و وجهها قد خلا من أي تعبير، اكتسبت صفة شمعية و مرة واحدة صارت جامدة تماما، إلا أن دوجلاس لم يملك الوقت للتفكير في هذا الأمر، استدار ومشى بصعوبة تجاه المنزل لكن صاعقة ثالثة اندفعت نحوه مجددا فانحرف أقصى اليمين ملقيا نفسه وسط الشجيرات بجوار الجدار ثم تدحرج وتمسك بالجانب الصلب من المنزل منكمشًا قدر ما يستطيع.. في السماء المرصعة بالنجوم سطع وميض مفاجئ و ظهرت حركة هزيلة ثم لا شيء، توقفت الضربات الصاعقة و حتى الفتاة اختفت بينما ظل هو وحيدا..
كان فخا، محاكاة بارعة لجذبه خارج المنزل في الخلاء و من ثَم يتمكنون من اصطياده.. وقف دوجلاس على قدميه وهو يترنح و سار بمحاذاة جانب المنزل، على الممر كان بيل هاندرسون ولورا و بيرج يتحدثون بعصبية ويبحثون عنه.. كانت سيارة دوجلاس تقف عند المدخل.. ربما لو استطاع الوصول إليها ــــــــ
نظر دوجلاس إلى السماء، لاشيء سوى النجوم ولا أثر لهم، إذا استطاع أن يستقل سيارته و ينطلق بها على الطريق السريع مبتعدا عن الجبال نحو دنفر حيث المكان منخفض ربما يصبح آمنا.. أخذ نفسا عميقا، أمامه عشرة ياردات فقط إلى السيارة، ثلاثون خطوة.. فقط لو يستطيع الوصول.. ركض دوجلاس بسرعة على الممر، فتح الباب ووثب داخل السيارة و بحركة سريعة أدار المحرك، اهتزت السيارة و علا صوت هديرها، ضغط دوجلاس بقوة على دواسة الوقود فانطلقت السيارة مسرعة.. صاحت لورا و هي تنزل درجات السلم لكن صيحتها ونداء (بيل) المصدوم تلاشيا مع هدير المحرك..
بعدها بثواني كان دوجلاس على الطريق السريع مبتعدا بأقصى سرعة عن البلدة سالكًا الطريق الطويل الملتوي المؤدي لدنفر.
بإمكانه استدعاء لورا من دنفر و ستنضم إليه ويأخذان القطار المتجه للشرق سويًّا، لتذهب كلية بريانت إلى الجحيم فحياته الآن على المحك. قاد السيارة ليلا لساعات دون توقف حتى انبلج نور الصباح و ارتفعت الشمس رويدا في السماء، بدأت السيارات تغزو الطريق و بجانبه مرت شاحنتا ديزل تتحركان بثقل مصدرتان قرقرة , كان قد بدأ يشعر بالتحسن و أصبحت الجبال خلفه و تفصله عنها مسافة كبيرة.. ارتفعت معنوياته إذ أصبح النهار دافئا، هناك مئات الجامعات والمعامل المنتشرة في أرجاء البلاد ويستطيع أن يواصل عمله بكل سهولة في مكان آخر، لن يكون بمقدورهم التمكن منه طالما أصبح بعيدا عن الجبال..
أبطأ دوجلاس من سرعة السيارة، كان مؤشر عداد الوقود يقترب من علامة النفاد، على يمين الطريق كانت هناك محطة وقود و مقهى جانبي صغير، مشهد المقهى جعل معدته تحتج و تذكر أنه لم يتناول إفطاره.. كانت هناك سيارتان تصفان أمام المقهى و عدد من الأشخاص يجلسون عند منصة تقديم الطعام في الداخل.. انعطف بسيارته و توقف في المحطة ..
" املأها ! "
قالها دوجلاس للعامل و خرج واقفا على الحصى الساخن تاركا محرك السيارة يدور، سال لعابه؛ صحن مليء بالكعك الساخن و طبق جانبي من لحم الخنزير وكوب قهوة ساخن يتصاعد منه البخار ... " هل أستطيع أن أتركها هنا ؟ "
حرك العامل الذي يرتدي زيا أبيضا غطاء الخزان و بدأ في ملء السيارة..
" السيارة ؟! ماذا تقصد ؟ "
" املأها واركنها هنا، سأخرج خلال دقائق قليلة بعد أن أتناول الإفطار سريعًا. "
" الإفطار ؟! "
تضايق دوجلاس، ما الأمر مع هذا الرجل؟ أشار إلى المقهى موضحا، عند مدخل المقهى كان سائق شاحنة يستند عل الباب ذو الأسلاك وهو يخلل أسنانه بانهماك، وبالداخل كانت النادلة تغدو جيئة وذهابا في خدمة الزبائن، كان بالفعل يشم رائحة القهوة ولحم الخنزير ينضج على الشواية، ومن صندوق الموسيقى انبعث صوت خافت و رديء لكنه دافئ وحميم.. " نعم، في المقهى."
توقف العامل عن تزويد السيارة بالوقود وأنزل الخرطوم ببطء ملتفتًا إلى دوجلاس وتعبير غريب يرتسم على وجهه: " أيّ مقهى؟ "
في تلك اللحظة انبعثت من المقهى موجة ذبذبات ثم تلاشى بأكمله ! كتم دوجلاس صرخة رعب، في المكان الذي كان يوجد فيه المقهى كان هناك حقل ممتد من الحشائش البنية، وبضعة علب صفيح صدئة و خردة و سياج مائل، أما على المدى فكانت حدود الجبال..حاول دوجلاس أن يتمالك نفسه :
" أنا متعب قليلا،".. عاد مرتبكا داخل السيارة .. " كم النقود ؟ "
" و لكني قد بدأت للتو في ملء الــ ــــــ "
دفع دوجلاس بورقة نقدية للعامل " هاك، ابتعد عن الطريق . " ثم أدار محرك السيارة و اتجه نحو الطريق السريع تاركًا العامل ينظر في أثره باندهاش.
لقد كان هذا وشيكًا وللغاية .. مصيدة كان على وشك دخولها بقدميه، ولكن الشيء الذي أخافه حقا لم يكن قرب حدوث الشيء بل كونهم لا يزالون يتعقبونه حتى خارج نطاق الجبال.. لم يجدِ الأمر نفعا، هو ليس أكثر أمنا من الليلة الماضية، إنهم في كل مكان ..
أسرعت السيارة، كان يقترب من دنفر ..ثم ماذا ؟ و إن يكن ؟ إن الأمر لن يشكل فارقا، بإمكانه أن يحفر حفرة في " وادي الموت" و رغم هذا سيظل غير آمن ، إنهم يلاحقونه ولا ينوون التوقف، الأمر إلى هذا الحد واضح تماما.
أخذ دوجلاس يعصر عقله، عليه أن يفكر في شيء ما أو طريقة للنجاة، إنها حضارة طفيلية؛ جنس يعيش على حساب البشر ويستغل معرفة الإنسان واكتشافاته، أليس هذا ما قاله بيل؟ إنهم يسعون خلف معرفته للأشياء و معرفته بعلوم الفيزياء النووية و مقدرته الفريدة، لقد تم اصطفاؤه دونا عن بقية رفقائه لبراعته وقدراته الأكثر تفوقا لذا سيظلون يلاحقونه حتى يتمكنوا منه.. ثم ماذا سيحدث ؟ تملكه الخوف و أخذ يتذكر ما مر به؛ السبيكة الذهبية، الشرك، الفتاة التي بدت حقيقية للغاية، المقهى المكتظ بالناس، حتى رائحة الطعام، لحم الخنزير و القهوة الساخنة.. يا إلهي, فقط لو كان شخصًا عاديا بدون مهارة أو قدرات خاصة، فقط لو ـــــــ .
فجأة صدر صوت فرقعة و انحرفت السيارة بينما أخذ دوجلاس يسب بعنف، ثقب في إطار السيارة.. وفي هذا الوقت بالذات!
أوقف دوجلاس السيارة على جانب الطريق وأطفأ المحرك و جلس صامتا لبرهة، في النهاية تحسس بارتباك معطفه وأخرج علبة سجائر منبعجة وأشعل سيجارة على مهل، ثم فتح نافذة السيارة ليسمح بدخول بعض الهواء.. لقد وقع في المصيدة لا ريب، ليس بوسعه أن يفعل شيئا، إن انفجار السيارة تم ترتيبه مسبقا، ربما ألقوا من أعلى شيئا ما على الطريق، مسامير صغيرة على الأرجح .
كان الطريق مهجورا ولا أثر لسيارة على مدى البصر و دوجلاس وحيدٌ تماما بين القرى، دنفر تقع على بعد ثلاثين ميلا وليس هناك أمل للوصول إلى هناك، لا شيء حوله سوى الحقول المنبسطة والسهول المقفرة.. لا شيء عدا الأراض الممتدة والسماء الزرقاء.. نظر دوجلاس إلى السماء، لم ير شيئا ولكنه يعلم أنهم هناك في انتظاره ليخرج من السيارة، ستقوم تلك الثقافة الغريبة باستغلال معرفته وقدراته، وسيصبح عبارة عن أداة في أيديهم و ينتقل كل علمه إليهم، سيكون مجرّد عبد، لكن على نحو ما يعدّ هذا إطراء، فمن بين مجتمع كامل تم اختياره هو فقط و هذا يعني أن مهارته و معرفته أفضل من الآخرين، فكرة كهذه جعلت وجنتيه تلمعان، ربما كانوا يدرسونه منذ فترة لا بأس بها، وتلك العين العملاقة بالتأكيد تفحصته مرارا من خلال التليسكوب أو الميكروسكوب أو أيا كان، لقد كانت تنظر إليه وتتفحص قدراته ومن ثم أدرك هؤلاء القيمة التي سيضيفها إلى ثقافتهم.
فتح دوجلاس باب السيارة وخطا بقدمه على الأسفلت الساخن.. ألقى سيجارته على الأرض وسحق عقبها بهدوء ثم أخذ نفسا عميقا وتمدد متثائبا، الآن يستطيع رؤية المسامير اللامعة تتناثر على قارعة الطريق، كلٌ من الإطارين الأماميين مثقوب..
شيء ما ومض فوقه، انتظر دوجلاس بهدوء، ها قد أتوا أخيرا، غير أنه لم يعد خائفا كما كان من قبل، فقط تابع الأمر بفضول متحفظ.. بدأ الشيء يكبر شيئًا فشيئا واتسع وتضخم محتلا الفراغ من فوقه، للحظة تردد الشيء, بعدها هبط على الأرض.. وقف دوجلاس في ثبات بينما انغلقت عليه شبكة واسعة، التفت الحبائل حوله والشبكة ترتفع إلى أعلى، كان يتجه إلى السماء إلا أنه كان مرتاحا و هادئ البال ولا يعتريه الخوف.. ولم الخوف ؟ سوف يقوم بذات العمل كما دائما، بالطبع سوف يفتقد لورا والكلية و رفقاءه المثقفين فيها بالإضافة إلى وجوه الطلاب المشرقة، ولكن حتما سيجد له رفقة بالأعلى؛ أشخاص وعقول مدربة يعمل و يتواصل معهم .
كانت الشبكة تزداد في الارتفاع و تبتعد عن الأرض سريعًا، شاهد دوجلاس باهتمام شخص خبير شكل الأرض وقد تغير من سطح مستو إلى كرة، كما استطاع أن يرى من فوقه خلف الحبائل المعقدة للشبكة حدود الكون الآخر والعالم الجديد الذي يتجه إليه.
أعلاه كان يجثم مخلوقان بالغا الضخامة بشكل لا يمكن وصفه، أحدهما كان يسحب الشبكة والآخر يراقب ممسكا شيئا ما بيده، كان المنظر بتكويناته الغامضة هائل الحجم و أكبر من أن يستطيع دوجلاس استيعابه ..
"أخيرا, ياله من صراع" ، انبثقت فكرة
" نعم لكن الأمر كان يستحق"، فكر المخلوق الآخر .
دوت أفكار المخلوقين في عقل دوجلاس؛ أفكار قوية من عقول عملاقة.
" لقد كنتُ محقًا، هو الأكبر على الإطلاق، ياله من صيد ثمين !
بالتأكيد يزن أربع وعشرين شوكريا !"
"أخيرا !"
فقد دوجلاس رباطة جأشه و غزت عقله قشعريرة رعب، ما الذي يتحدثان عنه ؟ ماذا يقصدان ؟ و قبل أن يسترسل في أفكاره كان يُلقى من الشبكة ويسقط متجها صوب شيء ما؛ سطح مستو و لامع، ترى ماذا يكون؟
الغريب أنه كان يبدو بشكل ما كـالمقلاة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق