من أسباب توحيد قلوب أفراد الشعب على هدف واحد, وجود تهديد من عدو خارجي محدد. فنلاحظ نبذ الخلافات - ولو مؤقتا - وتوقف السرقات. هذا في الشعوب المتدينة, أما العلمانية فتضطر بلادها لتطبيق الأحكام العرفية القاسية لكبح جماح الناس ومنع الفوضى. وحتى في البلاد ذات الوازع الديني قد ينفلت الوضع إن كانت الحالة حرب غير مبررة أخلاقيا أو الشعب يكره ظلم حاكمه, فهنا قد يرونها فرصة لـ"استيفاء حقوقهم المسلوبة " - تبعا لتفسير منطق العامة المتصف غالبا بالصبيانية وعدم الرشد وينتقل بين الانفعالية الهوجاء والسلبية المومياوية دون منطقة وسط معتدل ! - عن طريق السرقة وإضعاف الجبهة الداخلية انتقاما من النظام. أما الخطر الداخلي فأثره مدمر كمنافقي المدينة في عهد الرسول , يُتوقع منهم الخيانة في الأوقات الحاسمة الحرجة. ومما يجمع الشعب أيضا المصائب كالمجاعات والأوبئة وكل ما يهدد الأمن والاستقرار الاجتماعي, وإن كان العكس محتمل تماما إن كانت الأوضاع متأزمة ومحتقنة أصلا قبل الحادث فتجد مشاعر الكراهية لها متنفسا تعبر به عما كان يعتمل في الصدور ويغلي بلا "تنفيس".
# والحكومات تفهم هذه القاعدة جيدا, فنجد الأمم التي لا أعداء بارزين لها تخلق عداوة أو تضخم من شأن عدو ضعيف لأن ذلك أفضل لاستقرارها الداخلي وصرف أنظار الشعب عن أية مفاسد أو مظالم أو مشكلات تواجهها الدولة (اقتصاديا أو فكريا أو اجتماعيا) فلا صوت يعلو على صوت المعركة وبالتالي ينقاد الشعب بسهولة. ولاحظ أن هذا التكنيك وأمثاله في التعامل مع الجموع ليس شرا كله, بل هو جزء مهم من وظيفة السلطة قد تستخدمه بشكل سيء وقد يصير ضرورة مشروعة عند الحاجة تبعا للموقف ونية فاعليه, وهذه حكمة خفية لوجوب الانقياد للحاكم وطاعته فيما ليس حراما محضا وأيضا طاعة الجندي لقائده دون كثير مناقشة, إذ قد يكون الفعل جزءا من خطة أكبر وإستراتيجية لتحقيق غاية أسمى وليس القائد مرغما على توضيح دوافع فعله لكل فرد تحت إمرته لدواعي السرية وخوفا من تسرب الأمر للعدو المستهدف, فالطاعة واجبة على الفرد فيما أحب وكره, فهم أم لم يفهم , طالما أعطى من البداية ثقته لذلك القائد ولا يتذرع البعض بعدم شرعية حكم بعض القادة فطالما سكتت الجماعة فهي وافقت عليه حيث يتعذر أخذ البيعة من كل فرد وتأكيدها باللسان والمصافحة كما كان الأمر قديما وتذكر أن من مات وليس في عنقه بيعة فميتته جاهلية, وأنه لو طلب آخر الحكم بعد استتباب الأمر لأول وإن كان الثاني أعدل وأفضل فالأمر هو بقتل الثاني مهما كان. لكن نشير هنا لدور الحاكم في كسب ثقة شعبه فلا يطلب أكثر مما يعطي وأن يرحم في استعمال حقه كوالي ولا يتجبر فبهذا يضمن وقوف الجموع معه عند الحاجة أوقات زعزعة الدولة. فالثقة تُكتسب ببطء وكنتيجة لتجمع مواقف عدة .
ويفعل الأمريكان هذا اليوم مع شعبهم بافتعال حروب ليس فيها مكسب حقيقي للأمة لكن اتفقت مصالح شخصية لأفراد الحكومة مع "قوى أخرى" فحدث نوع من زواج المصلحة. فالجيش أمريكي والخسائر أمريكية لكن المستفيد والمخطط للحرب أساسا هي حكومة خفية تعمل من وراء الستار.
وقد تستخدم بعض الأنظمة أسلوبا مشابها بأن تجعل العدو صورة هلامية غر محددة المعالم وتجعلها العدو, فتستفيد من حالة الذعر وصرف الانتباه الداخلي وفي نفس الوقت لا تدخل أي معركة حقيقية فلا تخسر الكثير, بل تتجنب أيضا التجمع الحقيقي لقوى الشعب لأن العدو لا حدود له وهويته يتم تعريفها تبعا للاحتياجات المرحلية للحكومة,فتكون كل الخيوط في يد السلطة ولا يعرف الشعب من هو العدو حقيقة فقط يخاف الضربة القادمة من مكان مجهول وهذا يجعله مُدجَّنا أليفا يسهل التعامل معه وفي نفس الوقت تشله حالة الخوف فلا يتخذ خطوات إيجابية ضد حاكميه بل ويقوم بنوع من الرقابة الذاتية على نفسه بتكميم أي صوت يحاول توضيح حقيقة الخدعة وكشف التضليل, فالجموع لا تسمع إلا ما تريد أن تسمعه !. ومن أمثلة هذا الأسلوب قضية البهائيين في مصر وتوقيت التوسع فيها , وقضية الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول ونفخ الحكومة في نارها إعلاميا لأسابيع للتغطية على أحداث داخلية تخص السلطة الحاكمة وفضائحها, وفعل الأمريكان هذا أيام تخويف الشعب من الخطر السوفييتي وتهويله, وإن استفادت الدولة من الأمر أيضا بدفع عجلة الإصلاح التعليمي والتكنولوجي لمجاراة تقدم السوفييت, مع تصفية الأعداء الداخليين والمعارضين بوصمهم بالشيوعية وبالتالي تنفير الجموع من الاستماع لهم فيتم قتلهم أدبيا وتشويه سمعتهم. وفي مصر استخدم عبد الناصر هذا الإجراء ضد الإخوان ليبرر حملات التنكيل بهم وذلك بتضخيم أفعال بعض أعضائهم ووصفها بالتآمر والتخطيط لانقلابات.
مع العلم أن العلاقة عكسية بين همة الشعب ويقظة مثقفيه من جهة وعنف الأساليب التي تستخدم لقمعه من جهة أخرى, فحالة الهدوء النسبي لا تعني صلاح الوضع القائم بل انعدام الرغبة في المواجهة أساسا وأن عهود الإرهاب قد آتت ثمارها بخنق الجنين وتشكيله قبل أن يشب عن الطوق فيكبر سلبيا محايدا غير مبال وربما مؤيدا لجميع السياسات عن اقتناع ! فالتعليم والإعلام أقوى ألف مرة من الرصاص والمعتقلات. هذا مع ملاحظة أن السيطرة بهذه الطريقة على العقول ما كانت لتتم إلا بعد مرحلة من السيطرة الزمنية على الأجساد والألسن والأقلام.فالمغتصَبة التي استسلمت مرة ولم تمت دون شرفها يسهل عليها أن تتحول لعاهرة تستسلم مرات كل يوم.
# يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ .. النساء 59.
السمعُ والطاعةُ على المرءِ المسلم فيما أحب وكره، ما لم يُؤمرْ بمعصية، فإِذَا أُمِرَ بمعصيةٍ فلا سمعَ ولا طاعة. البخاري
«يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لاَ يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ، وَلاَ يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إنْسٍ» قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذلِكَ؟ قَالَ: «تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ. وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ. وَأُخِذَ مَالُكَ. فَاسْمَعْ وَأَطعْ». مسلم
"مَنْ خَلَعَ يَداً مِنْ طَاعَةٍ، لَقِيَ اللّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لاَ حُجَّةَ لَهُ. وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً" مسلم